كُتاب الرأي

حرروا عقولنا لانقاذ مستقبلنا

 

 

حرروا عقولنا لانقاذ مستقبلنا 

نقول في أمثالنا الشعبية : “عقل الكسلان معمل الشيطان”، هو مثل بسيط، ولكنه مليء بالمعاني العميقة والحكمة، ومعناه ان العقول التي لا تُستخدم تصبح بيئة خصبة للأفكار السلبية والوساوس الشيطانية، كالمياه الراكدة إن لم تتحرك تتحول إلى مصدر للأمراض والأوبئة، فالعقل هبة من الله عزّ وجل تميزنا بها عن غيرنا من المخلوقات، وقد أُمرنا بالتفكر والتدبر لما لهما من دور فعال في عمليتي الابتكار والإبداع، فإذا لم يُستخدم يصبح عرضة للأمراض الفكرية والاجتماعية، وأكثر خطورة عندما يُحظر استخدامه، ويُرسخ في المجتمع أن التفكير والنقاش محرمان وغير مرغوب فيهما، فإذا كانت عقولنا لا تعمل، فما الفائدة إذن من وجودنا في هذه الحياة ووجودها فينا من الأساس؟
ولماذا خصنا الله بها دون غيرنا من المخلوقات؟

تربينا للأسف في مجتمعات تُقيّد العقول كما تقيّد السجناء والأسرى وقطاع الطريق، وتحذر من التفكير، وتعتبره أسرع وسيلة لدخولنا نار جهنم، ونكرر نفس الكلام ونفس المعلومات دون نقاش فتراجعنا بينما كان علماؤنا في القرون الماضية روادا للمعرفة لأنهم كانوا يستخدمون عقولهم في تأسيس العلوم المتنوعة التي أخذها الغرب منهم، ويتفاخر بها اليوم، وأما نحن فمحكوم علينا بأن لا نستخدمها بدون موافقة مسبقة من الجهات المختصة، وكأن عقولنا ممنوعة من التفكير إلا بضغطة زر.

تعبنا من الوصاية وفرض الرقابة الصارمة على الإعلام وحرية التعبير، والحد من مناقشة قضايانا بحرية، والتركيز في التعليم على أساليب الحفظ والتلقين واعتبار مناقشة المواضيع السياسية والاجتماعية والدينية “محرمة ” أو “تاخذنا في ستين دهيه” إن خضنا فيها أو كتبنا عنها وفرض تقاليدنا وعاداتنا القديمة قيودا على عقولنا وتفكيرنا، ونخاف من النبذ الاجتماعي إن عبرنا عن آرائنا و من النقد و “الجمس الأسود” أكثر من خوفنا من الله فنحن جيل جعلنا نتبنى التوجه السياسي والاجتماعي والديني القديم آراء محددة يُعتبر مجرد نقدنا لها أو ملامستها، ولو من بعيد آنذاك تهديد لأمننا الوطني ونظامنا القائم وخروج على ولاة الأمر، فمتى يحين الوقت المناسب لفتح مساحات واسعة للتفكير الحر والنقاش البناء دون قيود تعيق مسار تطورنا الفكري كبقية البشر؟
إن المجتمع الناضج هو المجتمع الذي لا يخاف من حرية التعبير والكلمة، ويحتضن مختلف الآراء والأفكار والاتجاهات، ويمنح أفراده الفرصة لتطوير أنفسهم بحرية تامة ومسؤولية، ويتبنى قيم الحرية المسؤولة في التفكير والتعبير التي يعتبر تنوعهما زخم فكري يُسهم في رقيهم ونضجهم، ويُعزز من قدراتهم على مواجهة التحديات المستقبلية بوعي وتفكير، ويُتيح لهم فرصة التطور والنمو بشكل يعكس قدرتهم على المساهمة البناءة في بناء مجتمع متقدم يضرب به الأمثال.

فقد أثبتت الدراسات أن ثقافة المجتمع تؤثر في طريقة تفكير أفراده وبعض المجتمعات تتفوق في مجال التفكير الإبداعي، وتبدع، وتتميز أخرى في المجال العملي، وتعمل وتنجز بينما تعاني بعض المجتمعات مثلما نعاني للأسف الشديد من ضعف القدرة على التعبير والتفكير حتى أصبحت عقولنا مرتع للأفكار السطحية والتقليدية، وتتبنى كل ما هب ودب من الثقافات الوافدة دون وعي أو تمييز فتعطلت طاقاتنا، وضعفت هويتنا، وعجزنا عن مواكبة تحديات العصر في عالم لا مكان فيه لمن يتأخر عن ركبه ولو لحظة.

هذا التراجع في قدرتنا على التفكير والتحليل والإبداع والابتكار يؤثر سلبا على تطورنا الاجتماعي والاقتصادي والإداري والمهني، ويبقينا في دائرة الأفكار التقليدية والسطحية، ويُعيقنا عن التكيف مع المتغيرات الحديثة ومواكبة التقدم العلمي والثقافي فعلينا إن أردنا مواكبة الأمم أن نحفز العقول، ونشجع التفكير والتحليل والتعبير حتى نتمكن من تحقيق الازدهار والنمو الذي ننشده في عالم يتسم بالتغيرات السريعة في كل ثانية، ويشهد تحديات كبيرة وانفتاح معلوماتي وعولمةً عرضت عقولنا لتدفق هائل من المؤثرات الثقافية والحضارية التي لم نكن مهيئين لها من الأساس فخلقت صراعا داخليا في أثناء تعاملنا مع هذه الموجات الثقافية الجديدة الباردة أدت إلى تراجعنا وتراجع أبنائنا وبناتنا فكريا وسلوكيا مما يستدعي ضرورة تعزيز وعيهم الثقافي لمواجهة هذه التحديات بطرق فعّالة ومبتكرة.

وبرغم التحديات التي نواجهها ما زالت هناك عقول استطاعت الاستفادة من هذا الانفتاح والتطور، وأبدعت، وابتكرت، وخلقت نموذجاً للمواطن السعودي الذي يستخدم عقله لخدمة قضايا أمته ووطنه،
هذه العقول الواعية هي أملنا بعد الله في بناء مجتمع قوي متماسك قادر على التغلب على التحديات بثقة وإصرار، ويسير بثبات نحو مستقبل مشرق.
إن الأمل يكمن في تلك العقول التي تستلهم من الانفتاح طاقة وإبداعا، وتوجه رؤاها لخدمة وطنها ومجتمعها لتنشئ أجيالا قادرة على قيادتها وتحقيق ريادتها بفكر ناضج ورؤية مستنيرة وواضحة تقودنا معها نحو التقدم والازدهار.

وتشجيع التفكير الحر هو مفتاح خروجنا من أزماتنا وتوفير مساحات لنمونا الفكري من خلال الحوار والنقاش البنّاء بدلا من استخدام أساليب القمع الفكري التي كانت تستخدم معنا سابقا فنحن بحاجةٍ ملحّة إلى إعادة توجيه مساراتنا لمواكبة التحديات الراهنة إذ لا سلاح يضاهي قوة العقل في مواجهتها كما يتطلب ذلك تشجيع الأجيال القادمة على التفكير الحر والتحليل وتوفير بيئة محفزة تنمّي عقولهم، وتطلق إبداعاتهم، وتحرّرهم من القيود التي كبّلتهم لعقود واستعادة الثقة بقدراتهم العقلية، وتمهد الطريق أمامهم لإيجاد حلول مبتكرة تواكب نظرتهم للحياة وتطلعات مستقبلهم.

وتطبيق التفكير الحر يستلزم بناء بيئات تعليمية وإعلامية واجتماعية تحفّز على التساؤل والنقاش، وتُشجّع على التعبير عن الآراء بحرية تامة فمن خلال تعزيز التفكير الإبداعي في التعليم ودعم تنوّع وجهات النظر المختلفة في الإعلام وخلق مساحات مفتوحة للنقاش في الحياة الاجتماعية يمكننا بناء مجتمع قوي قادر على مواجهة التحديات والتصدي لأي تهديدات بفعالية، وننشئ مستقبلا مزدهرا يرفض التبعية.

وللإعلام دور محوري في هذه العملية فهو من يقوم بتوجيه العقول نحو التفكير العقلاني السليم بدلا من أن يصبح كما هو الحال وسيلة لنشر الأفكار المستوردة والجاهزة والمضللة والمؤدلجة والتفكير الحر هو أساس كل تقدم، ولا يمكن لأي أمة أن تحقق نهضة حقيقية ما لم تضعه في صدارة أولوياتها وتمكين عقولنا هو السبيل الوحيد لاستعادة ريادتنا التي فقدناها فالعقل السليم سلاح لا يُضاهى في مواجهة الجهل والتخلف، والحروب المستقبلية، وعلينا استثماره بحكمة وزرع أهميته في عقول أجيالنا القادمة من الآن ليتمكنوا من تحقيق طموحاتهم وبناء مستقبل مشرق يجسد عزتهم، ويومن لهم التقدم والازدهار في عالم سريع الإيقاع لا يعترف بالتوقف، ولا يعجبه إيقاع عالمنا البطيء.

كاتب رأي

محمد الفريدي

رئيس التحرير

‫4 تعليقات

  1. احيان نحن بحاجة إلى تحديد الاتجاهات حتى نستطيع معرفة إلى أين تسير المعتقدات، كون الإبقاء على ترك هامش الحرية متاحًا طوال الوقت يمكن لذلك أن يؤذي الفرد عينه، لذلك كله نحن بحاجة إلى تنظيم شؤوننا حتى تحصل السيادة القانونية ونبقى في دائرة مراقبة الأخطاء والهدف منه تعديل وتصحيح ما نقع فيه من أخطاء حتى تستقيم المعتقدات.
    هكذا هي الحياة الاجتماعية.
    موضوع هام كما أن الكاتب يسبح في بحر الفكر بلا غرق.
    موفق دائمًا لكل خير أبا سلطان.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى