هتان الشعر

الشاعر قدوره العجني السلمي و قراءة في قصيدة البرد, للشاعر السعودي عبيد الدبيسي

كتبها الشاعر: قدوره العجني السلمي, عضو اتحاد كتّاب مصر. مطروح, مصر

الشاعر الأستاذ/ عبيد الدبيسي الجهني, من شعراء المدينة المنورة, بالمملكة العربية السعودية
شاعر نبطي شهير ومعروف, وصاحب تجربة عريضة في قرض الشعر, وله عديد القصائد التي تغنًّى بها المطربون على مساحة العالم العربي.
تعرفت عليه في مهرجان الشارقة للشعر الشعبي, بالإمارات العربية المتحدة, في يناير 2021م, وكنت قد سمعت عنه قبلها ولكنِّي بعد أن التقيت به, صارت متابعتي له أقوى وأقرب.
ولقد لفت انتباهي بشدة, طريقته وأسلوبه الخاص جداً, والمختلف عن كثير من مجايليه في كتابة الشعر النبطي خصوصاً.


والحديث عن هذا الشاعر المبدع يطول, ولكنني سأصحبكم معي في عجالةٍ, إلى نصٍ قصيرٍ من نصوصه, ولكنَّه يقول الكثير, عن الشعر والشاعر, والذائقة الشعرية, والتجربة الذاتية, والبصمة التي يجب أن تميز كل شاعر عن غيره.
ومن نصوصه الجميلة القصيرة المكثفة اطَّلعت أخيراً على نصِّه التالي:

سرقني البرد من حضن الدَّفا بدري
ومن يومها ما انخلقْ حضنٍ يدفِّيني
ما زلت اخبِّي طعون الفقدْ في صدري
وما زال حزني من الذكرى يقهويني
واقول وِشْ خلَّت الأقدار من قدري
ومن حلمي اللِّي ورا ها العمر جافيني
ما غير أسولف عن الأحلام مع جدري
والحلم شيّب وهو متوسد ايديني
مليّت هذا الرحيل المرْ وابغى ادْري
هذا الوجع لا مْتى ودَّه يخاويني
من فوقي الْبردْ يسكنِّني ومن حدري
عمري شتا لو نقلتْ الجمر ب يديني
وشْلون ادفِّيك يا بردٍ سكنْ صدري
خلِّك بصدري ترى ما عاد يمديني

والى ان انتهت القصيدة المكونة من سبعة أبيات فقط, وليس فيها ابهام وغموض ولوغاريتمات كما يقال بل هو نص بسيط جدا صاغه الشاعر باحساس اكثر رهافة وبساطة وعمقا.
ولفهم هذا النص يجب أن نفهم بعض الرموز الواردة في النص, إن صحَّ أن نطلق عليها رموزا, ولكن الشاعر آثر إلَّا أن يتلاعب بنا, كعادة المبدعين, ولا يلجأ إلى المباشرة مثل غيره, وهذه هي ميزة الشعر الذي وإن كان تعريفه العام يقول, أنَّه: كلام موزونٌ, مقفَّى, له معنى, ثم أضيف إلى ما سبق أنَّ الشعر يجب أن “يدعو إلى الدهشة” بل وقال العارفون أن في هذه الدهشة تسعة أعشار الشعر.
ولنتساءل أولا: إلى ماذا يشير الشعراء عموما بمفردة البرد؟
والتي جعلها الشاعر في صلب هذا النص, وقاعدة ارتكازه.
أنها تعني أشياء كثيرة منها:
اليتم, الفقد, الحرمان, وقد يندرج فيها الهجر, ويتولد عنها الحزن والضيق والألم
ونستطيع أن نجمعها في عبارة الجفاف العاطفي, ولكن الشاعر “عبيد الدبيسي” يعطينا في أبياته إشارات قوية, أن المقصود هو: اليتم هو لفقد الأبوين, والفقد لحضن الأم وحنانها, وإن كان المجاز يتسع لكل حنان, وكل حضن من الأم ومن الأب ومن غيرهما.


وإذا كان أهل النقد الحديث, يحدثوننا عن أنواع نقد النص من: التفكيكية: أي تفكيك النص إلى وحدات منفصلة متصلة.
والبنيوية: وهو نقد بنية النص. وصولا إلى النقد التأويلي, وهذا التأويل ليس مطلقا يفسره كل متلقي كما يريد, وإنما هو محكوم بالرموز والإشارات التي يعطيها الشاعر ثم المفاتيح القليلة التي ببثها في ثنايا النص.
وهنا يلزمنا ما يسمى بالقراءة التأويلية, لمجمل أبيات القصيدة, فمنذ البيت الأول, يعطينا الشاعر الرموز الشعرية مصحوبة بالمفاتيح التأويلية:

سرقني البرد من حضن الدفا بدري
ومن يومها ما انخلق حضنٍ يدفِّيني

يقول لقد سرقني: أي فاجئني البرد, والمقصود اليتم, من حضن الدفا: أي حضن الأم, بدري: أي مبكراً.
ومن يومها: أي ومنذ تلك اللحظة, لم يخلق مثل أحضان أمي وحنانها ومحبتها, وهي إشارة قوية ومعبرة بأنه لا يوجد بديل لحنان الأم, مهما تغاير على الإنسان من حبيبة وزوجة وبنين وبنات الخ..
بل إنه في البيت الثاني: يجعل من ألم الفقد والحزن, والتي يخبئها لنفسه, ويتظاهر بغيرها أمام الناس, وتعايشه الدائم مع هذا الطيف والذكرى بين حين وحين, جعلهما أصدقاء يتبادلان أكواب القهوة, في لحظات الاختلاء إلى النفس, ثم يربط افتقاده للدفء وحنان الأم وحالة اليتم العاطفي, بمجريات حياته, فهل ارتكن الشاعر إلى حالة الحزن؟ ولم يبحث عن الدفء, بالقطع لا, لقد حاول بلا كللٍ ولا ملل, حتَّى تحوَّل هذا البحث إلى حلم دائم يلازمه, ولكن بدون جدوى, فهذا الحلم يجافيه دوماً, ولا يكاد يتحوُّل إلى واقع, وهنا نسأل هل هي مبالغة من الشاعر- في أنه لم يجد الدفء والحنان في حياته الممتدة أبداً – والإجابة لا, ونلاحظ ذلك من البيت الأول أن المفقود هو حنان الأم, والذي لا يوجد ما يضاهيه, وهذه حقيقة لا تكاد تتغيَّر إلَّا نادراً جداً, وكل حنان أو دفءٍ صادفه الإنسان مهما بلغ, يظل دون حنان الأم ولهفتها ومحبتها المجرَّدة, التي تعطي وليدها كل شيء, دون أن تنتظر منه أي شيء.
ويقول: ومع أن الأقدار لم تترك لي أي قدرٍ من المناورة, ولكنَّه يؤكد من خلال النَّص أنَّه يؤمن بالقدر خيره وشرِّه, لدرجة أنه تعايش مع هذا الفقد والحزن, واتخذ منه رفيقاً دائماً, ومع أنه لم يفقد الأمل مطلقاً, وظل الحلم بالحضن الدافئ المفقود, يلازمه طوال عمره حتى لقد شاب هذا الحلم وهو يتوسد ذراع صاحبه.
وهنا نلفت أن تكرار قافية “يديني” في الأبيات, نستطيع أن نعتبرها إن جاز لنا ذلك, ضمن الجناس الكامل, وهو اتفاق اللفظ واختلاف المعنى, فهو يقول في الرابع “متوسّد ايديني”, والمقصود مجازاً يتوسَّد أذرعي, فالإنسان يتوسد ذراعه وهو جزء من اليد وليس يديه كلها, وفي البيت السادس “لو نقلت الجمر بيديني” ويقصد بها هنا كفِّي يديه, والكفين جزء من اليدين بالطبع, والتعبير باليدين هنا وهناك هو تعبير وتشبيه مجازي فلا يوجد حلم يتوسد اليد, كما لا يوجد جمر يحمل في كف. ولكن الشاعر قصد إلى أبعد من ذلك.
أما في اللغة: فنجد مفردات اختارها الشاعر, لتناسب النص والمراد منها, وما يقابلها من مفردات, فالحسن يظهر حسنه الضد كما قيل, فنجد مفردة: البرد ومقابلها الدفء, ومفردة الشتاء لتناسب الأول, ومقابلها الصيف لتناسب الثاني, ومفردة الوسادة والقهوة, لتناسب السهر والسهد والمسامرة, والصدر وما يحويه من قلب يحب ويحلم ويتألم ويحزن, إلى آخر المفردات: التي أجاد الشاعر استعمالها, والتلاعب بها, وتوظيفها لتخدم الغرض الشعري, دون أن يلجأ إلى أسلوب المباشرة التقريرية, والتي نلاحظها دائما في الشعر النبطي, في مغربه ومشرقه, بل وفي الشعر العربي الكلاسيكي عموما.
ومن الملاحظ غالبا في الشعر النبطي: طول النصوص بلا مبرر, وتكرار الصور والتشابيه, ولكننا هنا أمام شاعر مبدع, صاحب تجربة ثريِّة, جعلته يتخلص من طول القصيدة, بتكثيف الأبيات وهذا لا يتأتى إلا لشاعر مخضرم بعد تجربة طويلة, فيتحول كل بيت عنده إلى مشروع قصيدة, وجعلته أيضا يتخلص من الحشو المعتاد عند كثير من الشعراء, والخلاصة: أن الشاعر عبيد الدبيسي, يكتب تجربته هو, التي أمدَّته بخبرات مهمة, جعلته يتخلص من كثير من عيوب الشعر النبطي, ومع أن الشاعر من أهل البداوة كما أعرفه, ولكنه لم يلجأ إلى تضمين وصف البيئة الصحراوية, ومفرداتها المعتادة: وصف الجبال, والإبل, والخيل, والمطر والربيع, إلى آخره, وهذا ليس إقلالا من هذه المفردات ومبدعوها, ولكن الشاعر هضم هذا كله وتجاوزه لأنه لا ضرورة له في النص, خصوصا وأن النص قصير مكثف لا يتحمل أي حشو من مثل ذلك, وفي آخر هذا النص الجميل نجد خلاصة هذا الصراع بين الشاعر وبين حلمه الذي لن يتحقق, وبين الم اليتم والفقد الذي يلازمه فيقول:

وشلون ادفِّيك يا بردٍ سكن صدري
خلِّك بصدري ترى ما عاد يمديني

مخاطبا برد الفقد: كيف أجد السبيل الذي يجعلك تشعر بالدفء أيها البرد الذي سكن صدري, وهذا يبدو مستحيلاً, لأنه لا يوجد بديل على وجه الارض لحنان إلام المفقودة كما ذكرنا, ولكنه يقول له إبْقَ في صدري, فلن يفرِّق بيننا على ما يبدو إلَّا الموت.
وختاماً: لقد اختزلتْ هذه القصيدة القصيرة, ذات السَّبعة أبيات, قضيَّة إنسانية هامَّة هي فقد حضن الأم أو الأبوين في ظاهرها, ولكن مجازاتها تذهب بنا في تأويلات شتى, فهي ليست قضية الشاعر فقط وإنما هي قضية الناس كل الناس من لدنِّ ابني آدم إلى يوم يبعثون, وهذا في رأي أهل النقد, هو الشعر الحقيقي, الذي يجعل الناقد الدارس, والمتلقي البسيط, يستقبلون النصَّ ويفهمونه على السواء, كُلٌّ حسب رؤيته وذائقته الشِّعرية, وتجعل من الشاعر يتحوُّل من مجرد مُعبِّر عن قضيَّته الخاصَّة, إلى مُعبِّر عن قضايا المجتمع الإنساني كُلُّه, وبأسلوب سلسٍ رقيقٍ لا افتعال فيه.

الشاعر قدوره العجني السلمي / مصر

محمد الفريدي

رئيس التحرير

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى