كُتاب الرأي

قيمنا القديمة في طريقها للاندثار

محمد الفريدي

قيمنا القديمة في طريقها للاندثار

قيمنا التقليدية هي مخزوننا القيمي الذي توارثناه جيلا بعد جيل عبر الزمن، ولا غنى لنا عنه ابدا.
وهي البوصلة التي تهدي سلوكنا إلى الطريق الصحيح، وتحدد مكانتنا في المجتمع فعلى سبيل المثال كانت مفاهيم الشرف والسخاء والكرم والولاء والاحترام عمادا أساسيا لتقييم الفرد والجماعة والمجتمع، ولم تكن شعارات فارغة كما يعتقد البعض من هذا الجيل الذي يراها اليوم“أي كلام” بل انعكست على تفاصيل حياتنا اليومية، وعبرت على مدار قرون عن نظم متماسكة ومتجذرة في ثقافتنا المجتمعية.

وقد كان الشرف، على وجه الخصوص، محور رئيسي في مجتمعنا السعودي، وارتبط بقوة بالعائلة والقبيلة والمجتمع ككل والمساس به يُعد خرق لقيم الجماعة ومساس بجوهر علاقاتنا الإنسانية وعار لا يمحوه إلا الدم.
كما أن قيم الاحترام والطاعة للأكبر سنا والكرم والوفاء ساعدت على تعزيز تماسكنا، وحافظت على الروابط بين جميع أفراد المجتمع.
ولكن مع تسارع التحولات الاقتصادية والاجتماعية والتكنولوجية واجهت قيمنا القديمة تحديات كبيرة أثرت بشكل واضح على البنية الاجتماعية التقليدية مما دفع المجتمع إلى إعادة تقييم قيمه ومبادئه القديمة والتنازل عن بعضها، ولعبت الثورة التكنولوجية على وجه الخصوص، دور بارز في هذا التنازل والتحول، وساعدت على انتشار الأفكار والقيم العابرة للحدود والبحار والقارات.

ومع انتشار وسائل التواصل الاجتماعي والانفتاح الثقافي بين المجتمعات والأمم أصبح المجتمع السعودي بعد أن كان مغلق نوع ما أكثر انفتاحا على أنماط فكرية وسلوكية متنوعة بعضها يتناقض مع قيمنا التقليدية القديمة وبعضها الآخر فرض نفسه بنفسه فرضا على واقعنا وحياتنا، وأصبح له تأثير ملحوظ في تشكيل سلوك أفراد مجتمعنا المهوس بالانعتاق من قيم الماضي واعتناق قيم الحرية القادمة من مقاه ودهاليز الشانزليزيه وبعضها فرض بقوة النظام فلله در من فرضها بالقوة.

هذه التغيرات والتحولات أثرت بشكل كبير في الأسر والبيوت التي كانت لفترة طويلة حامية تقليدية للقيم النبيلة القديمة في مجتمعنا، وغيرت أدوار أفراد الأسرة بشكل ملحوظ، وأصبح التركيز أكبر على الاستقلالية الفردية مما أدى إلى تقليص الاعتماد الكلي على النظم الأسرية التقليدية القديمة.

وفي أثناء مواجهة المجتمع لهذه القيم الوافدة والتغيرات برزت قيم حديثة تركز على الفرد وحقوقه مثل الحرية والمساواة والعدالة الاجتماعية التي جاءت استجابة لاحتياجات العصر الحديث وسعيا لتلبية متطلبات أسرية وإنسانية جديدة وتمكين الفئات المهمشة وتحقيق العدالة لها، ومع هذا فإن هذه القيم ليست بمنأى عن النقد فتركيزها الكبير على الفردية سوف يؤدي إلى تفكك العلاقات الأسرية والاجتماعية والقيم التقليدية، ويضعف التماسك المعهود في مجتمعنا السعودي الذي نشأ على احترام الأعراف والعادات والتقاليد وكبار السن.

ففي اليابان مثلا تمكنت الأسر والحكومة اليابانية من تحقيق التوازن بين قيمها التقليدية القديمة والمعاصرة، وحافظت على التقاليد العائلية القديمة مثل احترام الآباء والأجداد وكبار السن وتقديرهم مع تطبيق التكنولوجيا الحديثة في مجالات التعليم والعمل، واستخدموا وسائل التواصل الاجتماعي في بناء مجتمع قوي يحترم جذوره الثقافية، ويتطلع إلى مستقبل أفضل.
وفي دول الشمال الأوروبي نجحت كذلك المجتمعات هناك في تحقيق توازن مثالي بين احترام قيمها الثقافية التقليدية القديمة وتبني التكنولوجيا المتقدمة والتطبيقات الرقمية في تحسين جودة الحياة، فتناغمت مع بعضها البعض، وشكلت مزيجا جعلها نموذجا في الغرب يُحتذى به في تبني قيم جديدة فرضتها العولمة عليها دون أن تتعارض مع هويتها الثقافية التقليدية القديمة بينما نحن نستخدم القيم الوافدة والتكنولوجيا الحديثة ووسائل التواصل الاجتماعي في تذويب هويتنا وقيمنا وتقاليدنا التي توارثناها جيلا بعد جيل.

ولتحقيق هذا التوازن في مجتمعنا يتعين علينا من وجهة نظري تعزيز الحوار بين الأجيال عبر تنظيم ندوات وورش عمل تجمع الشباب وكبار السن لمناقشة أهمية القيم التقليدية القديمة وسبل تطبيقها في ظل هيمنة وسائل التواصل الاجتماعي والتطورات التكنولوجية الحديثة التي جاءت لنا بقيم جديدة تتعارض مع قيمنا، وتحديث مناهجنا التعليمية لتشمل مواد تربط بين الأصالة والحداثة وتشجيع المبادرات المجتمعية التي تسعى للحفاظ على تراثنا الثقافي وعاداتنا ﻭ تقاليدنا مع مواكبة قيم العصر الجديد الذي تهيمن عليه عادات وتقاليد ثقافية رقمية قادمة من كل بقاع العالم.
إلى جانب ذلك يمكن لوسائل الإعلام أن تلعب دور رئيسي في نشر الوعي بأهمية التوازن بين القيم القديمة والجديدة من خلال تسليط الضوء على قصص نجاح لمجتمعات من حولنا استطاعت تحقيق هذا التوازن، وعززت من قدرات مجتمعاتها على التطور دون التخلي عن هوياتها الثقافية.

ان قيمنا ليست مجرد رموز وشعارات نرفعها للاستهلاك العام فقط بل هي نبض مجتمعنا وجوهر هويته ووجوده والحفاظ عليها وتجديدها وضمان استمراريتها وصمودها في وجه التقاليد الوافدة مسؤولية مشتركة تقع على عاتق الجميع فهل نستطيع إيجاد صيغة تُوفق بين الماضي والحاضر وبين القيم التقليدية القديمة التي تُعزز تماسك المجتمع والقيم الحديثة التي تُعزز الحقوق الفردية أم نترك الدرعي ترعى ونستريح؟
أترك لضمائركم الحية حرية الإجابة.

كاتب رأي

محمد الفريدي

رئيس التحرير

‫12 تعليقات

  1. كلام في الصميم أ. محمد أحسنت الاختيار ، فعلا الواقع الذي نعشيه مع الجيل الجديد، وهذه كارثة نتجرع مرارتها حاضراً ومستقبلاً اذا لم ينظر إليها بعين الاعتبار .

    1. الأستاذة الفاضلة سلامة المالكي.
      تحية طيبة وبعد:
      أولا أشكركِ جزيل الشكر على تعليقكِ القيم.
      ﻭ ثانيا كلماتكِ تعكس مدى وعيكِ واهتمامكِ بالمستقبل، وأتفق معكِ تماما في أن الواقع الذي نعيشه مع الجيل الجديد يمثل تحديا حقيقيا ، وإذا لم نكن حريصين على معالجة هذه القضايا من الآن فإن مرارتها ستستمر وتستفحل مع مرور الوقت.

      و من واجبنا جميعا أن نُسهم في إعادة التوازن والوعي للمجتمع، وأن نعمل معا من أجل ضمان بقاء القيم الأصيلة في أجيالنا القادمة.

      أشكركِ مرة أخرى جزيل الشكر، وأتمنى مواصلة الحوار البناء من أجل بناء المستقبل. و قبول تقديري واحترامي لكِ سيدتي.
      أبو سلطان

  2. ابحرت بقلمك المبدع حتى وصلنا معك لميناء الواقع الذي لابد ان نعيشه ، لا كلمات تقال تعبر عن مدى مصداقية مانقلته لنا وعبرت به الي دواخلنا ، احسنت في طرح هذه الرسالة
    شكرا من القلب
    الاعلامية فاطمه الحربي

    1. الأستاذة الفاضلة فاطمة الحربي.
      تحية طيبة وبعد :
      أشكرك من أعماق قلبي على كلماتك الطيبة.

      تعليقك هذا، سيدتي، يعكس وفاءً كبيرا وإحساسا عميقا لما أكتب، ويجعلني أشعر بأن رسالتي قد وصلت.

      أنا دائما ما أسعى لتقديم ما يلامس الواقع وينبض بالحقيقة بغض النظر عن القبول أو الرفض، ولا يسعدني شيء بقدر أن تكون كلماتي قد أسهمت في فتح آفاق من التفكير والتأمل.

      لكِ مني كل الشكر والتقدير على دعمك وتشجيعك المستمر، وأسأل الله العظيم رب العرش العظيم أن أكون دائما عند حسن ظنك.وتقبلي تحياتي وتقديري لشخصك الكريم.
      أبو سلطان

  3. لم يبقى من قيمنا التى توارثناها من الآباء والاجداد إلا النادر منها .. هويتنا القديمة في طريقها للاندثار .. اعتقد أن الاجيال القادمة لن تعرف من تلك القيم إلا إسمها .. اين نحن الان من الكرم ؟ فالمجالس فارغة وبعض البيوت لن تجد بها مجالس إصلاً ..
    أين نحن من الاحترام ؟ وانت تجد الصغير يسابق الكبير ويتقدم عليه ..
    أين نحن من الشرف ؟ وانت تجد الاسر تتمايل في الاماكن العامة بما فيهم رب الاسرة ..
    ولاننسى الحديث الشريف ( لتتبعن سنن من كان قبلكم حذو القدّة بالقدّة حتى لو دخلوا جحر ضبٍ لدخلتموه .. قالوا : اليهود والنصارى ؟ قال : فمن ؟
    وهاهنا نحن الان في ذلك الزمن الذي اخبر عنه المصطفى عليه افضل الصلاة والسلام نتبع اليهود والنصارى ويبرمجوننا على أهوائهم ..
    مقال جميل جداً من كاتب غيور ولكن لن يجد أي آذان صاغية فالزمن تجاوزنا ولن يعود للخلف فالقابض على دينه كالقابض على الجمر ..
    الله يستر من القادم .. والله المستعان .

    1. سعادة الزميل الغالي المستشار أبو عبدالله
      تحية طيبة وبعد:

      شكرا لك على تعليقك الثري والعميق، و ما تطرقت إليه من انحسار لبعض القيم الأصيلة في مجتمعاتنا اليوم هو واقع لا يمكن تجاهله، والتحديات التي تواجهنا في الحفاظ على هويتنا تزداد مع مرور الوقت.

      إلا أنني مازلت يا سيدي أؤمن أن التغيير لا يعني بالضرورة الاندثار، بل يمكن أن يكون فرصة لإعادة استحضار تلك القيم العظيمة في سياق يتماشى مع متطلبات العصر و صحيح أن الزمن قد تغير، ولكن لا يزال لدينا من القيم والمبادئ ما يمكن أن يعيد للجيل القادم التوازن بين الأصالة والتطور.

      كما ذكرتَ في حديثك الجميل، نحن نعيش في زمن تزداد فيه محاكاة الغير، ولكن هذا لا يعني أننا لا نستطيع التمسك بمبادئنا وأخلاقنا، فمهما كان التحدي، يبقى الطريق واضحا لأولئك الذين يصرون على حماية قيمهم ومبادئهم.

      أقدر حرصك على المبادئ و القيم وصدقك في التعبير عن واقعنا، وأتفق معك أن الأمل في التغيير يبدأ من الأفراد الذين يحملون هموم الأمة والوطن في قلوبهم ، فلنستمر في السعي نحو الأفضل و لنحافظ على تماسك مجتمعنا وقيمنا، والله المستعان ، وتقبل فائق تحياتي واحترامي.
      أبو سلطان

  4. لاهوية لمجتمع خالي من الأصالة والإعتزاز بقيمه الأصيلة الراسخة والمتوارثة عبر الأجيال.. موضوع جمييييل وهام جداً ينبغي فعلاً الإلتفات لهذا الأمر فالتوازن بين الماضي والحاضر والقديم والجديد بما يحقق المطلوب بينهما فلا رفض للتطوير ولا نفي للأصيل تلك هي الغاية والهدف….. أبدعت أستاذ محمد👌👌👌👌بارك الله في علمك وعملك وفكرك النير دائماً👏👏👏👏🌹

    1. الأستاذة الكريمة زايده حقوي
      تحية طيبة مملؤة بالتقدير والاحترام.
      كلماتك الرائعة وتعليقك العميق يعكسان وعيا فكريا نعتز به، و ما تفضلتِ به من تأكيد على أهمية الحفاظ على الأصالة والقيم المتوارثة، مع تحقيق التوازن بين الماضي والحاضر، يعبر عن جوهر رسالتي وهدف المقال.

      التطوير لا يعني التخلي عن الجذور، بل هو عملية تكامل تضمن استمرار الأصالة في قالب يواكب الحاضر، و إشادتك الكريمة بعملي وفكري تمثل دعما غاليا أعتز به، وتشجعني على مواصلة الطرح الذي يخدم مجتمعنا وهويتنا.

      بارك الله في علمك وفكرك، وشكرا من القلب على كلماتك التي أضافت الكثير لمعنى المقال.
      وتقبلي خالص تقديري واحترامي.
      أبو سلطان

  5. الآ يكفي للكاتب أن يطوِّع قلمه، ويبحر بأسلوبه الأدبي لتكون كلماته بهذا المستوى وذلك في النقاط التالية:
    – اختيار موضوع المقال.
    – تناول القيم الموروثة.
    – نماذج اختارها الكاتب من أسس البناء الإجتماعي ومنها …
    – الشرف والسخاء والكرم والولاء والاحترام.
    – مثل هذه الإختيارات هي ماتؤكده الرسالة الإعلامية التي قامت بها هذه الصحيفة.
    – هذا النموذج لكاتب الرأي هو من يستحق أن يأخذ حقه من الإنتشار وتتناقله بقية الصحف الأخرى لتعميم التجربة النافعة.
    – شكرا لرئيس التحرير الكاتب الكبير الأستاذ محمد على الفريدي فأنت من يستحق الإشادة والثناء.

    1. أستاذنا الكبير والقدير الدكتور محمد حامد الجحدلي
      تحية تقدير واعتزاز بمقامكم الكريم، كلماتكم المضيئة وتعليقكم العميق يعبران عن بصيرة فكرية نعتز بها جميعا.

      إن ما أشرتم إليه من أهمية تطويع القلم الأدبي لخدمة القيم الموروثة وتسليط الضوء على أسس البناء الاجتماعي، كالشرف والسخاء والولاء والاحترام، يعكس بالفعل جوهر رسالتنا الإعلامية التي نؤمن بها ونعمل على إيصالها من خلال هذه الصحيفة.

      و إشادتكم بجهودنا يمثل وسام فخر وشرف عظيم بالنسبة لي ، و دافع كبير لمواصلة العمل بروح عالية وبما يليق بثقتكم الغالية، و أرجو أن أكون دائما عند حسن ظنكم وظن قرائنا الكرام.

      كل الشكر والامتنان لكم على هذا الدعم والتشجيع المستمر أستاذنا القدير، وتقبلوا خالص تحياتي وتقديري.
      أبو سلطان

  6. السعي لتحقيق التوازن أمرٌ مطلوب ، حتى لو كانت قوة المتغير الدخيل أقوى من تيار المكون الأساسي ، بمعنى مغاير : لا ضرر ولا ضرار ، لا ينبغي أن يطغى شيء على شيء ،يتعين على الجميع دراسة الواقع وقياس مدى تحقق الغايات مع المحافظة على الهوية والقيمة.
    التوسع الإدراكي للقيم والاتجاهات معيار هام والتركيز على مجالات التطور المعرفي وتغير المفاهيم أيضا لا يجب إغفاله أو تجاهله.
    نحن في عالم متغير ، فالواجب التقدم بحذر لا بخوف.
    مقال أكثر من رائع.
    الكاتب عظيم وحروفه تتعاظم مع مقاله.

    1. شكرا جزيلا لك أستاذ علي المالكي على كلماتك الرائعة التي تحمل في طياتها عمقا فكريا وإحساسا صادقا.

      التوازن الذي تحدثت عنه هو جوهر استمرار الهوية في مواجهة المتغيرات، وقراءتك للمقال بهذا التميز والتفصيل تعكس إدراكا واعيا لماهية التحديات التي تواجه القيم والمفاهيم في عالم متغير.

      أتفق معك تماما أن التقدم بحذر وليس بخوف هو السبيل الأمثل للموازنة بين المحافظة على الهوية والانفتاح على التطور.

      وتقديرك لمقالاتي وحروفي شرف لي، وأرجو أن أكون دائما عند حسن ظنك وظن كل كاتب و قارئ واعٍ مثلك.وتقبل فائق تحياتي
      أبو سلطان

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى