فتحي غبن … الفنان التشكيلي الذي نقل ألم الشعب الفلسطيني وجماله في لوحاته ورحل

في صباح يوم الأحد الماضي الموافق 25/ فبراير/ 2024، توفي الفنان التشكيلي الفلسطيني فتحي غبن، وسط حالة من الحزن والأسى في قلوب الفنانين والمثقفين العرب وأبناء الشعب الفلسطيني، فتحي غبن كانت رحلة حياته الفنية مليئة بالنضال والكفاح والتعبير عن هويته الفلسطينية ومأساة شعبه التي يعيشها منذ أكثر من ٧٠ عاما وإلى اليوم.
ولد في خيمة بفلسطين المحتلة، ورحل عن عالمنا في خيمة أخرى بعد نحو 76 عاما من التيه الفلسطيني ومعاناة النكبات المتتالية، توفي بعد صراع طويل مع المرض وبعد أن ساءت حالته بسبب منع قوات الاحتلال الإسرائيلي له من الخروج من غزة لتلقي العلاج.
قبل رحيله المؤلم، انتشر له مقطع فيديو يشكو فيه من ضعف في رئتيه، وكان يصرخ قائلا:
” بدي أتنفس”، ولكنه لم يجد الفرصة للعلاج ولم تكن أنفاسه حرة هذه المرة، بل كانت محاصرة من قبل المرض و قوات الاحتلال الغاشم التي لا ترحم، وبهذا الرحيل، تنتهي رحلة أحد أبرز الفنانين التشكيليين الفلسطينيين المعاصرين، الذي ولد في 12/ نوفمبر/ 1946.
لم يكن فتحي غبن مجرد رقم في قضية فلسطين، كما هو الحال لجميع ضحايا النكبة الفلسطينية والصراع المستمر من خمسة اشهر في غزة، إنه فنان وفنان يحمل هويته وذاكرته الحية في أعماله الفنية، قدم للعالم صورة حية للقرى الفلسطينية وجمال طبيعتها، ورسم الشوارع والمخيمات بتعدد هوياتها المتنوعة، ورفع للعالم قضية الإنسان الفلسطيني والظلم الذي يتعرض له وأبدى تمسكه بالمقاومة ضد الظلم المستمر، ومع تقدمه في العمر، تحولت رحلته الفنية إلى سرد للحقيقة المأساوية التي يعيشها الشعب الفلسطيني، من التهجير والدمار وغياب المأوى والأمان والماء والطعام.
كان يجسد بريشته واقع الشعب الفلسطيني وينقل قصة الألم الذي يعانيه المهجرون، وضع في لوحاته كل ما هو مهددا بالاندثار للزمن، وأبقى على أثر الغائبين الذين تم تهجيرهم قسرا، ورسم العروسة الفلسطينية ليعكس الفرح السابق والحزن الحالي، وامتلأت لوحاته بصور الحصاد الزراعي الفلسطيني، ليحافظ على ذكرى الأجداد وروح الأرض في ذاكرة الأجيال.
إن الفن لم يكن عنده مجرد لوحة فنية، بل كان خارطة تحفظ ذاكرة المكان للأجيال القادمة، فالبيت في لوحاته يمثل الوطن المحاصر والمحاط بالجدران والسياج والحديد و النار، والطين والحجر وثمرة الأرض هي الصوت الذي يتحدث به إلى العالم، ويحتفظ من خلاله بهوية وطنه المهددة بالاحتلال والاستيلاء والانقراض والاندثار والذوبان.
إن رحيله يترك فجوة كبيرة في المشهد الفني الفلسطيني والعربي، إنه فنان لن يُنسى، وستظل أعماله الفنية تحكي قصة شعبه وتعبر عن أمله ومأساته، فعلى الرغم من الصعوبات التي واجهها طوال حياته، استطاع أن ينقل الجمال والصمود من خلال فنه.
في زمن تتوالى فيه التحديات والصراعات في فلسطين، يظل الفن والثقافة هما الوسيلة الوحيدة التي تنقل صوت الشعب الفلسطيني وتحافظ على هويته، لقد كان جزء لا يتجزأ من هذا النضال الفني والثقافي، ورحيله يذكرنا بأهمية الفن في التعبير والمقاومة، ويدعونا للاستمرار في نقل صوت الشعب الفلسطيني والتعبير عن قضيته من خلال الفن والثقافة.
إن رحيل فتحي غبن يعد بلا شك خسارة كبيرة للفن والثقافة الفلسطينية والعربية، ولكن إرثه الفني سيظل حاضرا وسيستمر في إلهام الأجيال القادمة، وعلينا أن نحتفظ بذاكرته وأعماله، وأن نستمر في دعم وتشجيع الفنانين والمبدعين الفلسطينيين الذين سيواصلون رسالته في نشر الوعي والجمال والصمود.
في هذه الحرب الإسرائيلية على غزة، تعرض فتحي غبن لمأساة جديدة تضاف إلى قصة حياته المليئة بالتحديات، نزح من منزله في مخيم جباليا بسبب القصف المستمر، ولكنه لم يكن يعلم أن ذلك سيكون له تأثير كبير على مسيرته الفنية وإرثه الفني، وعندما عاد إلى منزله بعد انتهاء القصف، واجه مشهدا مروعا، فقد تم تدمير منزله ولوحاته الفنية التي استغرقت سنوات طويلة لإبداعها، فانهارت أحلامه وهو يشاهد تعابيره الفنية تحت أنقاض منزلة، وإرثه الفني محطم.
وفيما كان يحاول التعامل مع هذه الصدمة الهائلة، تفاقمت حالته الصحية، وتضاعفت مشاكله التنفسية بسبب تعرضه للغازات السامة التي كان يستنشقها خلال القصف، وتدهورت حالته الصحية بشكل كبير، ولم يتمكن للأسف من الحصول على العلاج اللازم بسبب منعه من الخروج من غزة بواسطة قوات الاحتلال الإسرائيلي، ودخل في صراع مع المرض والظروف الصعبة في غزة، ولكنه لم يستسلم، كان يعاني ويصرخ: ” بدي أتنفس”، ولكن صوته المتحشرج لم يصل إلى العالم في خارج غزة، وفي صباح يوم الأحد الماضي، أغمضت اعينه الفنانة العظيمة التي نقلت الألم والجمال في لوحاته إلى العالم.
إن رحيله يعد فقدانا كبيرا للفن الفلسطيني والثقافة العربية، فقد كان فنانا متميزا ومبدعا، ترك أثر عميق في عالم الفن التشكيلي، رسم معاناة شعبه وأبدع في تجسيد هويته وصموده في وجه التحديات والمآسي، استطاع أن يرسم الأمل والتعبير الفني في وجه الصعاب.
كانت لوحاته تحكي قصة شعب فلسطين المناضل وتجسد رغبته في الحرية والعدالة و حقه في الحياة، لقد كان فنانا مؤثرا وملهما، وسيظل إرثه الفني حجر الزاوية في تاريخ الفن التشكيلي الفلسطيني.
مع رحيله، تفتح صفحة جديدة من فصول معاناة شعب فلسطين، إنها تذكير قاس بأهمية الفن ودوره في نقل القصص والأصوات التي قد تكون مكبوتة.
يجب أن نحتفظ بروحه الفنية وأن نستمر في نشر رسالته ورؤيته من خلال تعزيز الثقافة والفن في المجتمع العربي والفلسطيني.
في مثل هذه الأوقات الصعبة، يجب على المجتمع الدولي أن يواجه التحديات التي يواجهها الفنانون والمثقفون في غزة، وضمان حرية التعبير والوصول إلى العلاج اللازم للفنانين الذين يعانون من الآثار النفسية والصحية.
رحم الله فناننا القدير فتحي غبن وأسكنه فسيح جناته وألهمنا جميعا لنواصل رسالته الفنية التي مات ولم ير أثرها على أرض الواقع، رحل، و لكن إبداعه سيظل حيا في قلوبنا وفي ذاكرة الفن العالمي، و أرجو في الختام أن تجسد السينما العربية قصته وحياته وكفاحه كما جسدت كفاح وحياة الشهيد ناجي العلي رسام الكاريكاتير الفلسطيني الذي اشتهر بشخصية حنظلة واغتالته يد الغدر والخيانة في شوارع لندن ودفن فيها بعيدا عن أرض وطنه الذي حمله معه في رشته و قلبه أينما ذهب.
محمد الفريدي