ركبة زرقاء اليمامة وجيل الطيبين

محمد الفريدي
ركبة زرقاء اليمامة وجيل الطيبين
تركت قصة زرقاء اليمامة أثرا عميقا يمتد من أعماقنا إلى ذاكرة الثقافة العربية؛ فهي تمثل اليوم، رغم إيماني السابق بقدراتها الخارقة، أسطورة ثقافية ورمزًا لحدة البصر التي تتخطى حدود الزمان والمكان والمسافات البعيدة. ومع ذلك، واجهت زرقاء اليمامة تحديا كبيرا، بسبب شكوك قومها وعدم تصديقهم لرؤاها، حتى اعتبروها مجرد “ركبة”.
وفي هذه الأسطورة العربية تأليفا ونشأة، نجد إشارة قوية إلى أن امتلاك الحكمة والمعرفة وحدهما لا يكفيان إن لم يجدا آذان صاغية وقبول من الآخرين، فقد رسّخت أساطير الأقدمين زرقاء اليمامة رمزا لحدة البصر التي لم تلقَ اهتماما، ولا تقديرا من قومها.
زرقاء اليمامة شخصية شهيرة من قبيلة جديس، إحدى القبائل العربية التي عاشت في منطقة اليمامة (حاليا في نجد). عُرفت بقوة بصرها، الذي مكّنها من رؤية الأشياء على مسافات بعيدة تصل إلى مسيرة ثلاثة أيام سفر، أي ما يقارب 140 كيلومترا، مما جعلها تُعد “حارسة” لقومها و”رادارا عسكريا” تنبّههم بقدوم الأعداء من هذه المسافة البعيدة .
في إحدى المرات، خطط أعداء قبيلتها من بني أسد وغطفان للهجوم عليها، فقاموا بالتمويه بتغطية أجسادهم وأسلحتهم بأغصان الأشجار ليبدو، وكأنهم جزء من الطبيعة. وقد لاحظت زرقاء اليمامة حركتهم من بعيد، ورأت “أشجارا تمشي”، فأخبرت قومها، ولكنهم لم يصدقوها، وظنوا أنها تهذي. وفي النهاية، تمكن الأعداء من الهجوم على قبيلتها وتدميرها لتصبح قصتها رمزا لقوة البصر والبصيرة التي لم تُؤخذ بجدية من قومها.
في اعتقادي، تجسد زرقاء اليمامة الحكمة والاستماع إلى النصح، لا أقل ولا أكثر. ولا وجود لهذه الزرقاء إلا في مخيلتنا. وقد تركت لنا درسا يتكرر في الثقافة الإنسانية، حيث نرى أن الرؤية العميقة وحدها لا تكفي؛ فالعزلة أو سوء الفهم قد يحيطان بمن يحملها.
ومن هنا، يبقى حضور زرقاء اليمامة في ثقافتنا العربية علامة على أهمية احترام البصيرة، وأن الصمت أمام الحكمة قد يحمل معه خسائر لا يمكن استرجاعها.
ومع ذلك، تظل قصة زرقاء اليمامة لغزا في تراثنا العربي، يجمع بين الحقائق التاريخية والأساطير المتوارثة.
وتشير بعض المصادر إلى أن زرقاء اليمامة قد تكون شخصية حقيقية عاشت في منطقة اليمامة وسط الجزيرة العربية في زمن ما قبل الإسلام، حيث عُرفت ببصرها الحاد الذي يمكّنها من رؤية الأعداء قبل أن يصلوا إلى منطقتها.
ومن ناحية أخرى، يراها كثيرون شخصية أسطورية ابتكرها خيالنا الشعبي الخصب للتعبير عن الحكمة والبصيرة القوية في زمن كانت فيه الجزيرة العربية عرضة للصراعات والغزوات المستمرة.
ويستند هذا الرأي إلى أن قدرتها على رؤية الأشياء من مسافة مسيرة ثلاثة أيام تُعتبر من الصفات الخارقة للطبيعة التي غالبا ما تُذكر في ثنايا الأساطير، مما يجعلها شخصية رمزية أكثر من كونها شخصية تاريخية موجودة على أرض الواقع.
أصبحت زرقاء اليمامة بهذه الهرطقات جزءا من الأدب الشعبي والتاريخ العربي، وبرزت كرمز للمرأة الحكيمة التي تُحاول إنقاذ قومها رغم عدم استماعهم له، وظلت قصتها بين الحقيقة والخيال تدرس لنا، وتحتفظ بمكانة خاصة في عقولنا وتراثنا العربي، ودرسا لقيمة البصيرة واحترام الحكمة، مهما كانت ظروفها.
سواء كانت زرقاء اليمامة شخصية حقيقية أم خيالية، فإنها تُجسد مزيجا من الخيال والتاريخ في تراثنا العربي، ولها دور متجذر في ذاكرتنا الشعبية، حيث أراها تمثل فكرة الحكمة النادرة والبصيرة التي لا يمتلكها الجميع، والصراع الأبدي الذي يواجهه الحكماء حينما لا تُقدَّر آراؤهم أو تُرفض، مما يؤدي إلى عواقب وخيمة لا سيما في أوقات الأزمات .
وبمرور الزمن، أصبحت زرقاء اليمامة رمزا لقوة البصر والبصيرة، وارتبط اسمها بالفطنة التي تجاوزت الرؤية التقليدية، وجسدت الحكمة التي لا تُقدر بثمن، ولكنها في الوقت نفسه بقيت محصورة بين إطارات العزلة والرفض والتصديق والتكذيب.
في زماننا المعاصر، ينظر الجيل الجديد إلى قصص وأساطير مثل أسطورة زرقاء اليمامة بمنظور مختلف؛ ففي ظل التقدم العلمي والتقني السريع، يميل هذا الجيل إلى تفسير الأحداث والشخصيات بعقلانية، باحثًا عن الأدلة المادية والحقائق التاريخية قبل تبني أي رواية، خاصةً ذات الطابع الأسطوري كقصة زرقاء اليمامة. فهم يعتبرون هذه القصص رمزية وخيالية، تهدف إلى نقل قيم وأفكار، ولا تقدم حقائق تاريخية.
ومع ذلك، لا يزال التراث والأساطير العربية يؤديان دورا مهما في تشكيل الهوية الثقافية للأجيال السابقة واللاحقة. فبينما لا يُصدق الجيل الجديد قصة زرقاء اليمامة كما كانت تُروى لنا، فإنه يرى فيها جزءا من الإرث الشعبي الذي يعبر عن تاريخ وقيم مجتمعنا، ويجمع بين استحضار رموزنا التراثية وتفسيرها بلغة عصرية، مما يساعده على فهم أعمق لأبعادها الثقافية والرمزية. وبهذا تبقى الأساطير، مهما اختلفت طرق قراءتها وفهمها، جزءا ثابتا من هويته الثقافية والتاريخية.
كانت الأساطير، بما فيها أسطورة زرقاء اليمامة، تمثل جزءا مهما من ثقافة جيل “الطيبين”، الذين نشؤوا، وترعرعوا على سماع القصص التي تتحدث عن أبطال خارقين وقدرات غير عادية تثير الإعجاب والدهشة.
كانوا يتبنون القصص الشعبية باعتبارها حقائق لا تقبل التكذيب أو الطعن فيها، إذ لم يكن لديهم وسائل التحقق المتاحة اليوم (للجيل الرقمي الجديد)، الذي لا تنطلي عليه مثل هذه الأساطير.
فحتى أحفادي أصبحوا يطلقون على زرقاء اليمامة اسم “زومبي اليمامة” في نقد لطريقة تفكيرنا وتصديقنا لمثل هذه الخرافات، مما يعكس تحليلهم للأمور بطريقة أكثر نقدا وفهمًا للحقيقة بعيدا عن تصديق الروايات الخيالية. وهذا ما يجعل الكثير من شبابنا يتعاملون مع هذه الأساطير كخرافات لا أساس لها من الصحة، أو مجرد رموز تُستخدم للتعبير عن معانٍ أخلاقية وقيم مجتمعية معينة في حقبة زمنية معينة.
فهذا الجيل يعيش وسط كمّ هائل من المعلومات، وأصبح الوصول إلى المعلومة أسرع وأسهل بفضل التكنولوجيا والإنترنت، مما جعله أكثر قدرة منا على تقييم الروايات التاريخية والأساطير بعين ناقدة. لذلك، فهم ينظرون إلى قصص مثل زرقاء اليمامة بمنظور ساخر، ويصفونها بـ “الزومبي”، بمعنى أنها قصص لا تنسجم مع الحقائق العلمية الحديثة، وظلت حية بين الأجيال السابقة حتى وصلت إلى جيل الطيبين الذي ابتلع الطعم، ولا يزال بعضهم إلى اليوم يصدق مثل هذه الترهات.
ورغم اختلاف الطريقة التي يتلقى بها الجيل الرقمي الجديد هذه القصص، إلا أنها ما زالت تؤدي دورا مهما في ترسيخ الهوية الثقافية، إذ تبقى بمثابة روابط تربطهم بجذورهم الثقافية. ومع أنها قد تبدو بعيدة عن الواقع بالنسبة لهم، إلا أنهم يظلون قادرين على فهم المغزى الأخلاقي أو الرمزي منها، مما يجعلها جزءا مهما من الأدب والتراث العربي في هذا العصر الذي يتميز بالمعرفة العلمية والانفتاح على الثقافات المختلفة. ومع ذلك، أخشى أن يطلقوا على جيلنا بعد رحيلنا بدلا من “جيل الطيبين” لقب “جيل الزومبي و ركبة زرقاء اليمامة”.
كاتب رأي
للأسف هذا ما نخشاه أستاذنا القدير
بالرغم من أهمية التقنية و فائدتها إلا أنها جردت الأجيال القادمة من حس الإنصات و التقدير و التقبل لمن يكبرهم سنا وخبرة .
ندعو الله أن يذكرونا بدعوة ابن بار تؤنس وحشتنا بعد الرحيل .💔
طرح مميز أستاذنا الفاضل وبصمة لم تكن إلا لكاتب تفرد بقلمه . مدخل القصة وربطها بالقيم والواقع … قوة الجذب التي تدفعنا لمواصلة القراءة بشغف من الاستهلال إلى الختام .
بوركت وبورك مدادك .
ابحرت فينا استاذ محمد حتى كانني ارى زرقاء اليمامة امامي
شكرا على طرحك الجميل. وكل ماسطره التاريخ وخلده ليصل الينا واستقر في اذهان جيل الطيبين كلاً حسب تصديقه للروايات ومفهومه ونقله بطريقته لمن بعده
اشكرك جزيل الشكر
الاعلامية / فاطمه الحربي
بيت القصيد :
ومن هنا، يبقى حضور زرقاء اليمامة في ثقافتنا العربية علامة على أهمية احترام البصيرة، وأن الصمت أمام الحكمة قد يحمل معه خسائر لا يمكن استرجاعها.
الحالة الراهنة للحكمة والبصيرة نشاهدها ولا نعيشها.
كم من حكيم ذو بصيرة يعيش بيننا ويسعى جاهدًا لتبصير الآخرين بما يفيدهم ويعزز اطمئنانهم ، لكن اللامبالاة بأفكارهم جعلت منهم يكتفون بإصلاح أنفسهم لاغير في ظل اتساع رقعة تأثير مواقع التواصل وعدم الإصغاء لتوجيهاتهم.
مقال أكثر من رائع.