كُتاب الرأي

كم من وظيفة مفصلة على المقاس؟

الكاتب / صالح حسين المحياني

أيام مضت كنا في صفوف الدراسة الاعتيادية، نتحدث مع بعضنا عن العديد من القصص والحكايات عن أساتذتنا في المدرسة. كان أحدهم لطيفًا مع جميع الطلبة، لا يميز بين ابن الرجل صاحب المقام الوظيفي الرفيع وبين ابن الرجل البسيط. كان غالبًا ما يستعين بدفاتري ليأخذ منها حلول الواجب المدرسي، لأنه ابن ذاك الرجل صاحب المقام. وكان غالبًا يلهو في مدينة جدة، في قصر والده المطل على الشاطئ، ولا يعير اهتمامًا بالدراسة أو مراجعة الدروس أو حل الواجبات، ومع ذلك يحصل على درجات عالية.

رغم أن أحد الأساتذة الموقرين اكتشف هذا الأمر، وحذرنا من تكرار هذا الفعل، إلا أن المرحلة الشبابية جعلتنا لا نصغي لما يقوله أستاذنا الوقور. كان يعلم بمستويات الزملاء، ولكنني اكتشفت لاحقًا أن والد زميلي كان غالبًا ما يستقبل بعض أساتذتنا من الجاليات الأجنبية في منزله، ويقدم لهم الكثير من الخدمات. ومع ذلك، كان يخفي عني هذا الأمر، ولا أعلم السبب.

ذات مرة، قلت له، ونحن نتبادل الأحاديث التي كانت غالبًا ما تسلينا معًا: “يا زاهد (لأن اسمه زاهد)، لماذا لا تراجع المواد وتذاكر جيدًا لتستفيد من حضورك اليومي إلى المدرسة؟” فأجابني قائلاً: “يا صديقي صالح، لماذا تتعب نفسك في المذاكرة؟ أليست النهاية الوظيفة؟” قلت له: “نعم، ولكن هدفك أنت أيضًا هو الوظيفة، أليس كذلك؟” فرد علي قائلاً: “نعم”. فقلت له مجيبًا: “أخي زاهد، لكن قبل الوظيفة، عليك أن تتعلم العلم النافع من هذه الكتب التي تعطى لنا، حتى تقابل الوظيفة بالعلم والمعرفة التي تجعلك متميزًا بين زملائك في العمل، فتبدع وتبرز عصارة فكرك وجهدك وتحصيلك الدراسي”. فأجابني قائلاً: “وظيفتي محجوزة لي”.

مرت الأيام والسنين، وتخرج كل منا من المرحلة الثانوية. وكان تقديره النهائي مناسبًا تمامًا، وكأنه مفصل على مقاسه. مرت الأعوام، وكل منا اتخذ طريقه الذي كتبه الله له.

كبرت في العمر وأصبح لدي أبناء. تخرج أحدهم من المرحلة الثانوية، ورغب في التقديم لوظيفة في إحدى المؤسسات الحكومية. فتقدم ابني لتلك الوظيفة، لكنه لم يُرشح لها رغم معدله العالي وتقديره الممتاز. أخبرني ابني أن المدير العام اسمه “زاهد بن فلان الفلاني”، وإذا به زميل الدراسة الذي أصبح من البشاوات والمدراء الكبار، يجلس على كرسي دوار! فرحت بذلك واستبشرت خيرًا.

وذات يوم، ارتديت ملابسي وذهبت إلى تلك المؤسسة، ومعي ملف ابني والسيرة الذاتية. وصلت إلى مكتبه، وقابلني السكرتير. سلمت عليه وسألني عما أريد، فأجبته: “أريد مقابلة الأستاذ زاهد. أبلغه أنني فلان بن فلان، وأحببت أن ألتقي به وأسلم عليه لأنه كان زميلي في الدراسة ورفيقي”. بعد انتظار طويل في مكتب السكرتير، عاد ليخبرني بأن الأستاذ زاهد مشغول حاليًا ويعتذر عن لقائي.

فقلت بصوت مرتفع: “سبحان الله! يعتذر عن لقائي؟ سبحان مغير الأحوال!” طلبت من السكرتير ورقة صغيرة لأكتب عليها سطرًا واحدًا لرئيسه، فاستجاب لمطلبي. كتبت الآتي على الورقة: “زميلي زاهد، سبحان الله مغير الأحوال. جئت لأسألك سؤالاً قد أتيت إليك من أجله، وظننت أن الأيام الماضية لم تنسِك زميلك. فأنا زميلك صالح الذي كان يجلس بجوارك في (الصف الثالث ب).”

وما إن عدت إلى سيارتي وركبتها وتحركت بعيدًا عن المؤسسة، حتى رن هاتفي. رفعت السماعة، وإذا بالسكرتير يسلم عليّ ويقول: “سعادة الأستاذ زاهد يريد التحدث معك”. تكلم معي زاهد واعتذر عما بدر منه، قائلاً إنه لم يتذكرني إلا بعدما وصلته قصاصة الورقة. حدد لي موعدًا للقاء، فقابلني في “يوم الزينة”، والناس في وضح النهار. وجدته يجلس على مكتب فاخر، وعلى كرسي دوار. نظرت إليه متذكرًا أيام الشباب، وقلت في نفسي: “هذه هي الحياة. تعطي كل إنسان ما يشكر الله عليه، أو تبتليه لتمتحنه”.

إننا، رغم قصور علمنا، ندرك وجود حكمة عظيمة في هذا التغير الذي يطرأ على الإنسان وينقله من حال إلى حال. وعليه ألا يطغى أو يصيبه الغرور، وألا يتعالى على رفقاء دربه. فما أكثر هؤلاء في وقتنا الحاضر! وأسفًا إذا لم يعتبروا ممن سبقهم. فالتاريخ يسجل، والعداد يعد.

كاتب رأي

صالح حسين المحياني

كاتب رأي - مستشار أمني.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى