كُتاب الرأي

يا أمةَ القممِ، أطفالكِ يُذبحون

محمد الفريدي

يا أمةَ القممِ، أطفالكِ يُذبحون

لا أحد في هذا الوطن الكبير كان ينتظر من قمة بغداد أن تغيّر شيئا، أو أن تُحدث تحوّلًا في مشهد الدم المسفوك في غزة، أو أن تخرق جدار الصمت العربي المنيع. فلم يعد الناس، بصراحة، بحاجة لانتظار البيانات، ولا حتى التحليلات السياسية.
كل ما كان يُرجى — ولو بمقدار قطرة ماء في صحراء — أن تتحوّل تلك القمة من منبر إنشائي إلى موقف يشتعل بحرارة الوجع الفلسطيني.
لكن، مرة أخرى، خيّبت السياسة ظنوننا وظنون البسطاء منا، وخرجت القمة كما دخلت: بحنجرة عالية وقلب بارد.

يبدو أن القمم العربية باتت أشبه بمسرح لا يتبدل ديكوره.
تتغير فقط العواصم، وتتبدل أسماء الرؤساء والملوك، ولكن النص ذاته يُعاد، بنفس الإيقاع الممل، وذات اللغة التي أصابها التكلّس.
بيانات الشجب، وعبارات الإدانة، وتوصيات حفظ ماء الوجه، لا تُشبع طفلا جائعا، ولا تُسعف مصابا يحتضر تحت ركام بيته، ولا تفكّ حصارا حوّل غزة إلى أكبر سجن في العالم بلا جدران.

القضية ليست فقط في غزة، بل في ذلك الشعور المتعاظم في قلب كل عربي بأن من يجلس على طاولات القمم لا يرون الصورة كاملة، أو أنهم يرونها ويتغافلون.
وأن ما يُقال في القاعات المغلقة لا يعكس، بأي حال من الأحوال، حرارة الشارع العربي الذي أنهكته الخيبات المتتالية.

لقد تجاوزنا زمن الحماسة العاطفية تجاه الاجتماعات العربية، وتحوّلنا إلى مراقبين ساخرين، نحسب عدد البيانات، ونقيس سماكة الورق الذي كُتبت عليه.

وأسوأ من ذلك، أننا أصبحنا نعرف مسبقا ما سيُقال، وما سيُشجب، وما لن يُنفذ من قرارات.
كأن البيانات تُكتب قبل القمة، وتُسلّم للمندوبين مع جدول الضيافة.
فلا مفاجآت، ولا قرارات مصيرية، ولا مواقف حاسمة ترتقي إلى مستوى الجرائم التي تُرتكب كل ساعة في غزة، وتُبث على الهواء مباشرة.

الحرب في غزة ليست فقط إبادة جسدية جماعية، بل هي أيضا امتحان أخلاقي للعالم، وللعرب الذين فشلوا في هذا الامتحان مرة أخرى.

لنضع العواطف جانبا.
المشهد قاس جدا.
أطفالنا يموتون جوعا، ومرضانا يُحتضرون بلا دواء، ومآذننا تُهدم، وبيوت أهلنا تُسوّى بالأرض، والعالم يقف متفرجا.
كنا ننتظر من قمة بغداد شيئا واحدا على الأقل: قرارا عربيا يكسر الحصار. لا أكثر.
لا نريد جيوشا، ولا طائرات، ولا وعودا فضفاضة.
فقط أن يتخذ القادة قرارا جماعيا، أخلاقيا، إنسانيا يُدخل الغذاء والدواء إلى غزة، ولكن ذلك لم يحدث، ولن يحدث على ما يبدو، في زمن تُدار فيه القضايا العادلة بلغة التوازنات والسكوت المطلق.

منذ متى كانت القمم العربية تلبي آمال الشعوب العربية؟
منذ متى خرجنا من قاعة اجتماع عربي ونحن نشعر أن الدم العربي لم يُهدر عبثا؟
المؤسف أن التاريخ يكرر نفسه، ولكن بصيغة أشد مرارة.
لقد اعتدنا الخذلان، وصرنا نحفظ عباراته كما نحفظ أبيات المتنبي:
“نشجب”، و”نستنكر”، و”ندعو المجتمع الدولي”، و”نطالب بوقف فوري”.
هذه ليست لغة قادة، بل لغة استسلام ناعم، مغطّى برتوش البلاغة.

غزة، في نهاية المطاف، ليست مجرد قطعة أرض تُقصف، بل هي مرآة تعكس أخلاقنا كعرب، وما نراه في المرآة ليس جميلا، هو انعكاس لفراغ القرار، وهشاشة الموقف، وبلادة الضمير.
كم مرة وقف العرب على باب التاريخ، ثم عادوا منكسري الأمل والخاطر، لأنهم لم يجرؤوا على اتخاذ موقف يليق بدماء تُسفك بلا هوادة؟

الأخطر من كل ذلك، أن فقدان الثقة في هذه القمم لم يعد مقصورا على الشعوب، بل انتقل إلى الأجيال الجديدة التي لم ترَ في حياتها قمة واحدة ذات أثر ملموس.
هذه الأجيال التي تربّت على منصات التواصل، لم تعد تقرأ بيانات القمم، بل تسخر منها، وتصنع منها نكاتا ومقاطع فيديو فكاهية، لأنهم أدركوا أن تلك البيانات لا تحمي حياة، ولا تُطفئ نارا، ولا تُعيد حقّا أُخذ بالقوة.
ومتى ما تحوّلت السياسة إلى مادة للسخرية، فقدت شرعيتها، وانهار ما تبقى من صورتها.

كم نحتاج إلى لحظة صدق، لحظة نكفّ فيها عن مداراة فشلنا بجمل بلاغية.
قمة بغداد، مثل سواها، جاءت وذهبت، بلا أثر، وبلا ضجيج حقيقي، وبلا وقفة حازمة تعيد الكرامة للقرار العربي.
ولو شئنا قول الصدق، فهي لم تكن قمة بغداد، بل كانت قمة الغياب: غياب الموقف، غياب الفعل، غياب المسؤولية.

غزة ليست بحاجة إلى تعاطف منمّق، ولا إلى خطابات محشوة بالرثاء.
هي بحاجة إلى تحرك فوري، إلى كسر الحصار، إلى إرسال قوافل الغذاء والدواء من غير وسطاء، ومن غير مناورات دبلوماسية جوفاء.
لكنها، للأسف، تجد نفسها مرة أخرى وحيدة، يُتاجر باسمها في القاعات، ويُبكى عليها في المؤتمرات، ويُتخاذل عنها في الميدان.

لقد اختُزلت القضية الفلسطينية، في أذهان بعضهم، إلى مناسبات موسمية يُقال فيها ما يجب أن يُقال، ثم يُنسى كل شيء في اليوم التالي، وكأن غزة تُستدعى فقط لتزيين الخطاب السياسي، ثم تعود إلى معاناتها اليومية، وحصارها الممتد، ودمائها التي تكتب بصمت تاريخًا من الخذلان.

ولأننا أمة تنسى بسرعة، نحتاج أحيانا أن نعود إلى تاريخنا، لا لنمدحه فقط، بل لنتعلم من رجاله.
فقبل ستة عقود، وقف الملك فيصل بن عبدالعزيز ـ رحمه الله ـ في وجه العالم، لا بمقال صحفي، ولا بخطاب إنشائي، بل بقرار قوي.
حين أُحرِق المسجد الأقصى عام 1969، لم يدعُ إلى “التشاور” أو “تدارس الموقف”، بل دعا إلى قمة إسلامية طارئة في الرباط، وجعل من القدس قضية كل مسلم، لا قضية الفلسطيني وحده، وقالها بوضوح:
“فلسطين ليست للفلسطينيين وحدهم، بل لكل العرب، ولكل المسلمين، والتفريط فيها تفريط في مكة والمدينة”.

وكان يعلم أن السياسة لا تُدار بالأمنيات، بل بالمواقف، لذلك، حين أرادوا ابتزازه بسلاح النفط، قالها بكل شموخ:
“إذا كان عليكم أن تعيشوا بلا نفط، فنحن مستعدون للعيش بلا خبز، ولكن لا يمكن أن نفرط في فلسطين”.

وفي ذروة حرب أكتوبر 1973، لم يكتفِ بالتصفيق للعواصم التي تقاتل، بل أوقف ضخ النفط للغرب، فاهتزت اقتصادات، وارتبكت حسابات، وارتفع صوت العرب قويا مدويا في كل مكان.
كان فيصل شاعرا وخطيبا مفوَّها، ولهذا أدرك أن الكرامة لا تُصان بالكلمات الرنانة، وأن دماء العرب لا تُردّ ببيانات جوفاء، بل بقرارات حاسمة لا تتهاوى على طاولة المفاوضات.

أين نحن اليوم من فيصل؟
أين تلك الجرأة؟ أين ذاك الوضوح؟
صارت فلسطين اليوم عند البعض عبئا دبلوماسيا، ومادة إعلامية دسمة، ونقطة في جدول الأعمال تُقرأ ثم تُنسى.
إلا المملكة، ما زالت تُصر على رأيها، ومع هذا، لا يزال هناك من يتهمها بأنها باعت فلسطين.

بين قمة فيصل وقمم اليوم، بون شاسع، وفارق لا يُقاس بعدد الكلمات، بل بمقدار الدماء التي أُريقت، ولم تُحرّك ساكنا.

ما يحدث في غزة جريمة، وما يحدث من صمت مطبق في العواصم العربية جريمة أكبر.
فيا ليتهم يصمتون، ويا ليتهم لا يجتمعون.
ويا ليتهم لا يكتبون شيئا، لأن لا شيء يُؤلم أكثر من أن ترى القتل، وترى من يصفقون لبعضهم البعض ثم ينصرفون.
فأي وجع أشد من موت يُبث على الهواء؟

وأيّ سقوط أعمق من ابتسامات تُوزَّع فوق ركام الأطفال الذين يقول رفاتهم:
«نحن وفيصل باقون… والعار يُمرّغ وجوه الصامتين».

ربما لا نستطيع إيقاف القصف، لكن يمكننا أن نكسر صمتنا، ونحمي ما تبقى من كرامتنا من الامتهان، ونعلم أبناءنا أن فلسطين ليست خبرا في نشرة أخبار، بل جزء من شرفنا العربي.

وأن التاريخ لا يصنعه الجالسون في القاعات، بل الواقفون بالكلمة في وجه الصهاينة، من المحيط إلى الخليج.
فإما أن نختار أن نكون صوتا للحق والكرامة، أو نظل أسرى الصمت الذي يقتلنا ببطء.

كاتب رأي

 

 

محمد الفريدي

رئيس التحرير

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى