كُتاب الرأي

وُدّ بلا مخالب

 وُدّ بلا مخالب

فيصل الكثيري 

الودّ من أنقى ما يزيّن النفس، غير أنّه إذا تُرك بلا سياج من وعي وهيبة، انقلب وبالا على صاحبه. فما كل قلب يليق به عطاؤك، وما كل عين تدرك معنى كرمك. في عالم تسيره المنافع أكثر مما تحكمه المحبة، يصبح الودّ المجاني مغامرة محفوفة بالخطر، كمن يزرع ورودا على حافة الطريق ثم يتعجب حين تُداس تحت أقدام المارة. المودة تُحترم حين تخرج من يد قوية، وتُهان إذا بدت كعطاء عاجز. فالحلم بلا حدّ يُشبه نهرا بلا ضفاف، سرعان ما يغمر الأرض بالطين. والطيبة التي لا يحرسها وقار تُشبه قنديلا وهاجا في مهبّ الريح، ما أسرع أن ينطفئ أو يُختطف. ومن قدّم نفسه للناس عاريا من المهابة، فلا يلومهم إذا استخفّوا به أو استنزفوه حتى آخر قطرة.
النقاء الحقيقي لا يكمن في العطاء الدائم، لكن في معرفة اللحظة الفاصلة بين المنح والمنع؛ تلك اللحظة التي تميّز بين السخاء المشروع والتفريط المهين، بين التسامح الذي يسمو بصاحبه والتساهل الذي يجرّ عليه الامتهان. فالعفو الذي يخرج من قلب قادر أبهى من ألف انتقام، أما العفو الصادر عن ضعف، فلا يزيد صاحبه إلا هوانا.
إنك حين تمنح بلا وعي، تُشبه المزارع الذي يروي أرضًا لا تنبت، أو الصياد الذي يُلقي شباكه في بركة راكدة لا حياة فيها. بينما المودة الحكيمة تُشبه شجرة مثمرة تظلل من يلوذ بها، لكنها لا تمكن أحدا من قطعها من جذورها. الطيبة إذا ليست أن تبقى سهلا دائما، إنما تعرف متى تكون طريقا ممهدا، ومتى تتحول إلى صخر لا يُداس.
هكذا فقط يبقى الخير مصونا من الاستغلال، وتظل الفضيلة حيّة لا تتحول إلى عبودية صامتة. نحن في حاجة إلى طيبة تُشبه السيف المغمد: رقيقة في ظاهرها، لكن من يعلم بحدّها يهاب أن يستخف بها. وإلى حلم يُشبه الغيم؛ يفيض بالمطر، لكنه يعرف متى يحتجب عن الأرض الجاحدة. وإلى مودة تُشبه الكنز؛ ثمين، لكنه لا يُبذل لكل من مدّ يده. فالإنسان الذي يريد أن يعيش وديعا حتى حدّ البلادة، يهيئ نفسه لأن يُؤكل مرات ومرات. أما من جمع بين الرفق والحزم، بين القلب الرحيم والعقل اليقظ، فقد عرف سرّ البقاء في دنيا الذئاب دون أن يتحوّل ذئبا، وعاد إلى سمائه محتفظا بكرامته.

كاتب رأي

فيصل مرعي الكثيري

أديب وكاتب رأي

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى