وللحنين جذور

وللحنين جذور
جلست منار كعادتها قرب نافذة غرفتها، تتأمل أضواء المدينة التي لا تنطفئ. لم تكن معتادة على هذا المشهد فقد كانت حياتها في القرية مختلفة تمامًا. هناك، كانت تستيقظ على زقزقة العصافير، وترى الأزهارتتمايل مع نسمات الصباح، وتسمع صوت والدها وهو يسقي الأشجار. أما الآن، فلا شيء من ذلك كله بل شوارع مزدحمة وضجيج لا يتوقف، سيارات تعبر الشارع بلا توقف، وأبواق تتعالى في كل لحظة، وأضواء ساطعة فلا ليل في المدينة . حتى الهواء بها كان مختلفًا، ثقيلًا ومشحونًا بالضجيج ليس كما كان في القرية حيث كانت الرياح تحمل معها رائحة الزهور والعشب.
انتقلت عائلتها إلى المدينة قبل أسابيع بسبب عمل والدها، وكان الجميع يحاول التأقلم مع الحياة الجديدة. حاولت والدتها جعل البيت يبدو مألوفًا، رتبت الأثاث بطريقة تشبه منزلهم القديم، ووضعت ستائر مشابهة وحرصت على تعليق اللوحات التي كانت تزين جدران بيتهم في القرية. لكنها لم تستطع أن تعيد الإحساس الذي كانت منار تشعر به هناك. كانت كل زاوية من زوايا المنزل في المدينة تذكرها بالفراغ الذي يملأ قلبها. حتى جدران المدينة لم تكن قادرة على أن تمنحها الشعور بالأمان الذي كانت تشعر به في قريتها.
كانت منار لا تزال صغيرة عندما غادرت قريتها، لم تلتحق بالمدرسة بعد، حياتها تدور حول اللعب في الفناء، والجري بين النخيل، والاستماع إلى جدها وهو يحكي لها قصصًا عن الأيام القديمة.و يردد لها دائمًا:
“ النخلة يا منار، مثل الإنسان، تحتاج إلى الصبر والرعاية حتى تعطي أفضل ما عندها. ”
لكنها لم تفهم كلماته حينها، ولم تكن تعتقد أن يومًا سيأتي وتصبح فيه قريتها مجرد ذكرى بعيدة، وأنها ستجد نفسها في مدينة لا تشبه عالمها الصغير الذي ألفته. كانت قريتها بالنسبة لها كالعالم كله، حيث كانت الأشياء بسيطة، والأماكن مألوفة.
في ليالي المدينة، حتى النوم بات ثقيلا عليها فحين تستلقي على سريرها، تغمض عينيها، وتحاول أن تتخيل نفسها هناك، في فناء البيت، تركض خلف الفراشات، أو تجلس تحت ظل النخلة المفضلة لديها، تستمع إلى حكايات جدها، وتشعر بالأمان في حضنه الدافئ. كانت تحاول جاهدة أن تستعيد ذلك السلام الداخلي، لكن في المدينة، كل شيء مختلفًا !
ذات يوم، سألت والدتها بحزن :
“متى سنرجع لقريتنا؟ ”
نظرت إليها أمها بابتسامة هادئة، ومسحت على رأسها برفق وقالت :
“ الحياة تأخذنا إلى أماكن جديدة، لكن هذا لا يعني أننا نفقد ارتباطنا بماضينا. ”
لم تفهم منار تمامًا ما قصدته أمها، لكنها شعرت أن العودة ليست قريبة كما كانت تأمل. فتلك الكلمات تحمل شيئًا من الأمل، لكنها في نفس الوقت تؤلم قلبها.
وفي أحد الأيام، وبينما كانت العائلة تتناول الغداء، قال والدها فجأة وهو ينظر إلى صورة قديمة معلقة على الحائط :
“ ما رأيكم أن نزور قريتنا غدًا؟ اشتقت لرؤية بيتنا القديم. ”
كادت منار تقفز من الفرح، لم تصدق أنها ستعود ولو ليوم واحد إلى المكان الذي تحبه. فقد فقدت الأمل في العودة، وها هي الفرصة تأتي فجأة.
في صباح اليوم التالي، استيقظت باكرًا على غير عادتها، ارتدت ملابسها بسرعة، وساعدت والدتها في تجهيز الطعام الذي سيأخذونه معهم. كان الطريق طويلاً لكنه لم يكن مملًا، فقد كانت تنظر من نافذة السيارة، تشاهد كيف تتغير المناظر من مبانٍ شاهقة إلى حقول خضراء، ومن شوارع مزدحمة إلى طرقات ترابية ضيقة تحيط بها الأشجار. وكلما اقتربوا من القرية، شعرت منار أن قلبها يخفق بشدة. فالطريق يعيد لها ذكريات قديمة، وشعورًا بالحنين لوطنها الصغير.
الطرقات الرملية، ورائحة الأرض، وأشجار النخيل العالية، كل شيء كما تركته تمامًا. وعندما وصلوا إلى البيت، نزلت منار بسرعة، ركضت إلى الفناء، ووقفت تحت نخلة كانت تحبها كثيرًا. لمست جذعها الخشن، وكأنها تحاول أن تتأكد أنها لم تكن تحلم. كل شيء بدأ أصغر مما تتذكر، لكنها شعرت بالراحة لمجرد أنها هنا. كانت ترى في هذا المكان بعضًا من نفسها، بعضًا من ذكرياتها التي تحاول أن تحتفظ بها.
وجدت جدها جالسًا على كرسيه المعتاد تحت ظل نخلة كبيرة، يحمل بيده كوبًا من الشاي.
اقتربت منه وجلست بجانبه.
“ جدّي، لماذا لا نعود للعيش هنا؟ ”
ابتسم الجد، ونظر إليها بحنان وقال بصوته الهادئ الذي لطالما أحبته :
“أتعرفين يا منار؟ الحياة مثل النخلة، جذورها في الأرض لكنها تمتد نحو السماء. قد نرحل عن أماكننا، لكن جذورنا تبقى هنا، في الأرض التي نشأنا فيها، وفي الذكريات التي نحملها معنا.”
استمعت منار لكلماته بصمت. هذه المرة، شعرت أنها تفهم ما يقصده.
بقلم / منال مبارك طايع السلمي

