وطنك… آخر ما يجب أن يموت فيك

وطنك… آخر ما يجب أن يموت فيك
أيّها الإنسان في هذا الوطن الغالي، لك أن تحلم بما شئت، وأن تجوب بحارك، وأن تزرع سهولك، وأن تصنع لنفسك مجداً من عرقك، لكن إيّاك… إيّاك أن تضع قدميك على طريقٍ يبتعد بك عن وطنك؛ فإن الوطن ليس عنوانًا على بطاقة هوية، بل هو بطاقة الخلود في ذاكرة التاريخ.
الوطن هو أول ما نراه قبل أن نرى النور، وآخر ما يودعنا إذا وارانا التراب، هو السقف الذي ظلّلنا، والجدار الذي احتمينا به حين هبت رياح العمر، وهو النهر الذي روى جذورنا حتى تورّدت أوراقنا، فكيف يجرؤ عاقل أن يساوم عليه؟
افعل ما شئت، ابنِ قصورًا من ذهب أو من سراب، حلق بأحلامك فوق الغيم أو تحت أهداب الليل، اكسب الدنيا بما فيها، لكن لا تخسر الوطن… لأنك إن خسرته، ستكتشف متأخراً أنك لم تربح شيئًا.
الوطن هو النبض الذي لو توقف ماتت القلوب ولو بقيت الأجساد تمشي، هو المرفأ الذي وإن جفت أنهاره، ارتوت الروح بذكراه، إن خسرته، خسرْت تاريخك قبل مستقبلك، وجذورك قبل أغصانك، وأنت قبل أن تخسر أي أحد.
أيها الغافل عن نعمة الوطن، تذكر أن الغريب لا يحلم إلا بالعودة، وأن المشرد لا يبتسم إلا لذكرى بيت، وأن المقهور لا ينام إلا وهو يتمنى شمس بلاده، الوطن هو الوحيد الذي يمنحك دون أن يسألك، يعطيك الأمان قبل أن تطلب، ويحميك قبل أن تشعر بالخوف.
ألا ترى أن الأرض إذا خسرت غيمها ماتت؟ وأن البحر إذا خسر موجه سكن حتى التعفن؟ كذلك الإنسان إذا خسر وطنه… صار جثة من لحم ودم تسير بلا روح.
افعل ما شئت، ولكن إيّاك… إيّاك أن تسلّم قلبك لمن يريد سلب وطنك، أو لسانك لمن يطعن فيه، أو قلمك لمن يزوّر تاريخه؛ لأنك إن فعلت، فلن تكون خائنًا لوطنك فقط… بل خائنًا لذاتك ولدمك ولأجيال لم تولد بعد.
الوطن ليس مجرد خريطة، بل هو معجزة جمعتنا من فتات الريح، ومن غبار التاريخ، ومن ماء الغيم، وصاغتنا أمة من المجد.
الوطن هو الكلمة التي إذا نطقتها، استقامت قامتك، وإذا هجرتها، انكسر ظهرك.
تذكّر… أن الوطن ليس شجرة تستظل بها في صيفك ثم تتركها جافة في خريفك، وليس سلّمًا تصعد عليه ثم تركله حين تبلغ القمة، الوطن هو الأم التي إن جحدتها، جحدك الناس أجمعون.
أقسم بمن رفع السماء بلا عمد، أن الطعنة التي تصيب الوطن لا تلتئم حتى لو اندمل الجرح، وأن الخيانة التي تسرق أنفاسه لا تُغتفر حتى لو كتب الخائن ألف اعتذار.
افعل ما شئت… اغنم الدنيا شرقًا وغربًا، صادق الريح أو البحر أو حتى النجوم، لكن إيّاك أن تخسر وطنك… فإن خسارته ليست خسارة بيت أو أرض أو علم، بل هي خسارة روح، وخسارة كرامة، وخسارة رجولة… ومن خسر رجولته، فقد خسر كل شيء.
فاحمل وطنك في قلبك كما تحمل روحك في صدرك… احمه كما تحمي حدقة عينك… وحين تسأل نفسك يومًا: ماذا بقي لي؟ فلتجد الجواب يصرخ في أعماقك: بقي لي وطني… وبقيتُ أنا به.
د. دخيل الله عيضه الحارثي