كُتاب الرأي

سلاح الرأي العام سلاح القتلة

محمد الفريدي

سلاح الرأي العام سلاح القتلة

يُقال إن الرأي العام هو مرآة أي مجتمع في الدنيا. وهي عبارة براقة تُطرّز بها بيانات الناطقين الرسميين، وتُعلّق فوق مقرات القنوات الفضائية، وتُلقّن في قاعات العلوم السياسية وكأنها حقيقة مقدسة لا تُمسّ أبداً.
لكن الحقيقة؟ أن هذه المرآة مشروخة منذ زمن بعيد، ومع ذلك تُزيَّن في كل مرة بإطار ذهبي، لينخدع بها كل من يقف أمامها … بصمت.

لو كان الرأي العام صادقا، لما نُحِرَت غزة كل يوم على شاشات العالم، ولما فرّ نتنياهو وزمرته من محاكم العدالة وهو يلوّح ببطاقة ” حق الدفاع عن النفس “.
ولو كان الرأي العام صوتا حرا، لما وُضِعَت على أفواهنا الأقفال، ولما تحوّلت جثث أطفالنا إلى أرقام باردة في نشرات الأخبار.

تاريخ مفهوم الرأي العام، كما يقول الفلاسفة، ليس أكثر من قصة ناعمة كتبتها البرجوازية الأوروبية مع صعود الصحافة الورقية.
فباعوا وهم «الحوارات الحرة» في مقاهي باريس، واشتروا أصوات الفقراء بالدعاية، وخدعوا البسطاء بشعارات الحرية والمساواة، ثم صنعوا من هذا الرأي المدجّن سيفا يقطع به الأقوياء رقاب الضعفاء متى شاءوا.

ومع تطوّر الإعلام، صار تصنيع الرأي أسهل من شرب الماء، وصار من السهل أن تتحوّل الأكاذيب إلى يقين، والجلّاد إلى بطل، والضحية إلى رقم هامشي في شريط نشرة الأخبار.

لم يعد الرأي العام مجرد انعكاس لما يريده الناس، بل أصبح، في كثير من الأحيان، نتيجة لما لُقِّنوه مسبقا.

عبارة واحدة تختصر: لماذا يسكت الملايين عن قصف غزة؟ ولماذا يغطي بعض العرب عيونهم فلا يرون أشلاء أهلهم الممزقة؟
لأن رأينا، بصراحة، مستأجر؛ وضميرنا معلّب؛ والحق عندنا يُقصَف قبل أن يُقال، ثم نرفع أكفّنا بالدعاء في قيام الليل كأننا لم نكن شركاء في بيعه للجلاد بثمن بخس.

قالها نيتشه قبل قرن: ” إن الجنون في الأفراد نادر، لكنه في الجماعات والأمم والعصور أمرٌ شائع “.
فالرأي العام، في أوقات الأزمات والإبادات الجماعية عند نيتشه، يصبح جنونا جماعيا موجها، يهلّل للجريمة ويغطّي عليها؛ والجنون الفردي عنده شاذ، أمّا جنون القطيع فهو الأصل.
ومن هذا الجنون الجماعي تُصنع الحروب، وتُحرَق المدن، ويُقتل المظلوم مرتين: مرة بالسلاح، ومرة بتصفيق الحشود.

وأيُّ جنون أكبر من تصديق كذبة ” تحرير فلسطين ” بسلاح خفيف وصواريخ القسام التي لا تُسقط مباني العدو على رؤوس ساكنيها؟ وأيُّ جنون حين تتحوّل مأساة غزة إلى موسم للنفاق، تتسابق فيه الحكومات لإطلاق التصريحات المختلفة وتفتح موانئها لبضائع القتلة؟

نقول للعالم ما قاله أورويل أثناء الحرب الباردة: ” إذا كانت الحرية تعني شيئا على الإطلاق، فهي تعني الحق في قول ما لا يريد الناس سماعه “.
واليوم، في زمنٍ تُباع فيه الكلمة، وتُقصَف فيه الحقيقة والرأي قبل أن يُنطَق به، تصبح حرية التعبير جريمة يُعاقَب عليها الشرفاء، ومهزلة يتغنّى بها المنافقون.

لكن من أين لنا بهذه الحرية إذا كان هذا الرأي العام نفسه قد خُطِف وسُجِن داخل خوارزميات تُطعِمه مقاطع مختارة وتعليقات مصنّعة، ليبقى القطيع واثقا أن الحقيقة هي ما يراه، لا ما يُحجب عنه؟ وما دام القطيع راضيا بالقفص، سيظل الجلاد حرا يطارد الحقيقة ويُخرس الأصوات قبل أن تصرخ، متسترا بأكذوبة الرأي العام.

الرأي العام في زمن الإبادات الجماعية مسرحية هزلية: مشاهدون مندهشون، ومخرجٌ متواطئ، ونقّادٌ باعوا مقاعدهم بدراهم معدودة.
من يصدق أن هذا الرأي سينقذ غزة أو يعيد عيون أطفالها التي فقدوها بسبب القنابل؟
من يصدق الرأي العام أن من رفع شعار ” الحرية والكرامة ” سيظل يرفعه حين تصير الحرية مكلفةً والكرامة بلا جدوى؟

الدول لم تعد تتحرك بمصالحها وحدها، بل كثيرا ما تُبتزُّ بهذا الرأي المصطنع، فتتحول إلى دمى تحركها الأيادي الخفية، وتضحّي بمبادئها وحريتها في معارك لا تعنيها، تحت ستار الإجماع والرأي العام المزيّف الذي يُغطي جسد الضحية ويُخفي وجه القاتل.

و”الإجماع الدولي”؟ أيُّ إجماع هذا؟ من صنعه؟ ومن ضخّ المليارات ليُظهِر القاتل كأنّه حملٌ وديع، ويُصوّر الضحية كمجرمٍ خطير؟ الرأي العام الذي رُسمت به خريطة الشرق الأوسط باسم “الحرب على الإرهاب”، يتكرّر اليوم في غزة بوقاحةٍ أكبر: هنا إبادةٌ واضحة، وهناك مؤتمراتٌ عاجزة، وفي المنتصف شعوبٌ عربية تحلم بنصرٍ لن يأتي أبداً.
وكلما حاول أحدٌ قول الحقيقة، أسكتوه بحجّة “الإجماع” الكاذب، واستطلاعات الرأي الفارغة.

وما دام هذا الرأي العام المسموم حيّا، ستظل غزة تحت الركام، وستظل قاعات المؤتمرات تعجُّ بالخطابات الجوفاء، ونبيع صمتنا وضميرنا في مزادات السياسة الرخيصة، بينما تُمحى الشعوب والبيوت من الخريطة، ويُكتب تاريخ القتلة بأيدينا نحن الصامتين.

قالوا لنا إن الرأي العام صادق وحرّ، وعلينا أن نصدق هذا؟
نصدق هذا حين تُحذف الحقائق من المنصات تماما ويُدفن صوت المقهورين تحت ركام الترندات الفارغة.

الحقيقة أننا نعيش زمناً تُصنع فيه قناعاتنا كما تُصنع العلامات التجارية، وتُباع آراؤنا ومواقفنا كما تُباع الزبدة والأرز، برعاية شركاتٍ تصنع الرأي العام وتتحكّم فينا وفي موجات غضبنا وحبّنا وكراهيتنا، حتى صرنا مجرّد مستهلكين للأفكار كما نستهلك السلع، لا نملك من أمرنا إلا فتات حريةٍ تلهينا عن حقيقة أننا مقيّدون من رؤوسنا حتى أخمص أقدامنا.

نحن نظن أننا نختار آراءنا بأنفسنا، بينما الحقيقة أننا نشتريها مغلّفةً بشعارات الحرية وجرعات التضليل، ثم نروّجها بأنفسنا، وكأننا شركاء في حملة دعائية لحجب الحقيقة عن أعيننا.

هذا هو الوجه الحقيقي للرأي العام اليوم: أداةٌ للتخدير، وغطاءٌ للإبادة، وشهادةُ زور مكتوبةٌ بأصوات الجماهير المعلَّبة، وكلُّ من يصفّق له أو يصمت أمامه شاهدُ زور إضافيٌّ يوقّع كل يوم على شهادة دفن الحقيقة.

أتعجّب كيف لم يخجل أصحاب القرار في العالم حتى الآن، حين وُضعوا أمام أطفال غزة المقطّعين؟ كيف قالوا للقاتل: «نعم، هذا دفاع عن النفس»، ثم ابتسموا أمام الكاميرات ورفعوا شعارات العدالة؟ أيّ عدالةٍ هذه التي لا تخشى دمعةَ طفل، وتخشى سكين جلاده؟ وأيّ إنسانيةٍ هذه التي تضع الذابح والمذبوح في كفّةٍ واحدة، ثم تعظنا عن حقوق الإنسان، وأهمية الرأي العام في الحرب والسلم؟

فقد قُتِلت الحقيقة يوم خنقناها باسم الدين، ووَأْدناها مرةً أخرى باسم الأمن، وها نحن نذبحها اليوم باسم “الإجماع الدولي” و”الرأي العام” و”حقوق الإنسان”.
في محاكم التفتيش، قُتِلت باسم الدين، وفي محاكم الاحتلال، قُتِلت باسم الأمن، واليوم تُقتَل باسم “الإجماع الدولي” و”الرأي العام”.
وغداً ستُقتَل من جديد، كلما وُجد قطيعٌ يُصفّق، وكاميرا تُجمّل المذابح وتبيعها كقصصٍ بطولية للخائفين.

كلا، نحن نعرف كل شيء: الدم لا يحتاج مترجما، والرصاص لا يحتاج بيانا توضيحيا. وما يُراد لنا أن ننساه سنردده بأعلى أصواتنا، لأن الحقيقة إذا دُفنت في الصمت صارت أشد فتكا من الرصاص.

السؤال هنا: من يُلقّننا ما نقوله؟ من يصنع قناعاتنا ثم يبيعها لنا على شكل شعاراتٍ جاهزة؟ من يُقنعنا أن العبودية حرية إذا رُفعت فوقها لافتة الديمقراطية؟ من يجعلنا نهتف للجلاد ونصفّق ليدٍ تُغرقنا بالدم، ثم تمنّ علينا بقطرة ماء؟

والأهم من هذا كله: متى نكسر المرآة المشروخة ونرى أنفسنا بصدق؟ متى نعترف أن بعض قيودنا تسكن داخل رؤوسنا قبل أن تُقيّدنا بها عواصم الدول البعيدة؟ متى نفهم أن صمتنا لا يحمينا ولا يحمي أحداً، بل يؤجّل سقوطنا إلى أجل قريب؟

غزة اليوم، وسوريا والبوسنة بالأمس، كلها شواهد على أن الرأي العام صار سلاحاً بيد الأقوى وسيفاً على رقاب الضعفاء ليقنعهم أن موتهم قرار جماعي مصدره الرأي العام. والحقيقة أن هذا الرأي العام المزيف لم يكن يوماً صوت الضمير العالمي أبداً، بل كان حبل مشنقة يلتف حول رقبة كل من لا يملك إلا صوته ودمه وشهادة «لا إله إلا الله».

كذبوا علينا باسم التحرير، وخدّروا عقولنا باسم ” السلام العادل ” لغزة، لكن الدم المسفوح فضح أكاذيبهم، وكشف أن عدالتهم خيمة مثقوبة لا تظلّل الضحية، بل تتركها مكشوفة أمام رصاص الظلم، وسط صمت العالم وتواطؤه المفضوح.

في زمن تُصنع فيه القناعات كما تُصنع الإعلانات، أصبح التفكير المستقل شجاعة نادرة، وصار التمسك بالحق تهمةً تتطلب شجاعة أكبر للدفاع عنها.
ومن يرفض “الانسياق الأعمى” مع القطيع يُتهم بالجنون، ومن ينطق بالحقيقة يُلاحَق بتهمة التحريض.

فلا تركنوا إلى الرأي العام، ولا تغترّوا بالحشود التي تهلل وتصفّق؛ فمن أراد إنقاذ غزة حقاً، فليحرّر عقله أولاً، فالحريّة الحقيقية تبدأ حين نصبح أحراراً في تفكيرنا، قبل أن نطالب بتحرير غيرنا.

ومن ينتظر من الرأي العام ومنظمات حقوق الإنسان كلمة عادلة، سيظل طويلا أسير نشرات الأخبار حتى يتحوّل إلى ركام صامت، وتغدو ذاكرته صورة باهتة في ألبوم النسيان.

لا تصدّقوا الرأي العام ولا تنتظروا عدالته، فهو لم يكن يوما سوى قناع للقتلة.
إن أردتم إنقاذ غزة فلا تهتفوا، بل حرّروا عقولكم أولاً، لأننا إن لم نملك حرية التفكير اليوم فلن نملك غدا حتى حق البكاء على أنقاضنا.

ولا تخدعكم أصوات المذيعين ولا تصفيق القطيع؛ الرأي العام ليس منقذا بل مقصلة جديدة للضعفاء، ومن أراد أن ينتصر لغزة فليحرر عقله من أكاذيبهم، وليقل كلمته قبل أن يصبح هو ذاته ركاما يُضاف إلى ركام الصامتين.

كاتب رأي

 

 

محمد الفريدي

رئيس التحرير

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى