كُتاب الرأي

هُنا كنتُ حرّا

هُنا كنتُ حرّا

لم أعرف الخلاص حين فتحتُ الأبواب وخرجتُ إلى العالم، عرفتُه يوم أغلقتها وسكنتُ إلى نفسي. في اللحظة التي هدأ فيها كل شيء، سمعتُ في داخلي صوتا يشبه الحقيقة. كنتُ أظن أن الطريق إلى السلام يمرّ عبر الناس، ثم تبيّن لي أنه يبدأ من الداخل.
ومنذ تلك اللحظة أدركتُ أن السكون أصدق من الصخب، وأن العزلة ليست هروبا، إنما عودة إلى الجوهر.
كلّما أطلتُ الجلوس مع نفسي، ازداد وضوح الأشياء من حولي.
أن أقول ((كفى)) حين يمدّ الخوف ظلاله، وأن أقول ((لا)) حين يصفّق الجمع ((نعم)) .. وأن أمضي في الطريق الذي يرشدني إليه ضميري، لا الطريق الذي يرضاه الناس. وحينها فهمتُ أن الصدق هو الهواء الوحيد الذي يُنعش القلب،
وأن الزيف مهما تلألأ يخنق صاحبه من الداخل.
طالما ظننت أن الحرية أن أفعل ما أشاء، ثم أدركت أنها أن أختار ما يليق بي.
كم من إنسانٍ يبتسم كما يُراد له، ويتحدث بما يُنتظر منه، فإذا خلا إلى نفسه لم يعرف وجهه الحقيقي.
ذلك القيد الخفي لا يُرى، لأن سلاسله من نظرات وابتسامات وثناء سريع الزوال.
ويبدأ الخلاص حين تكسر تلك السلاسل الناعمة دون أن تُحدث جلبة، وحين تتجرّأ أن تعود إلى نفسك كما خُلقت أول مرة.
كلّما واجهتُ نفسي بصدق، تساقطت القيود بصمتٍ واحدا تلو الآخر.
القيود ليست دائما ضد الإنسان، فبعضها سياج يحميه من السقوط.
ومن يومها أدركتُ أن القانون لا يُطفئ الحرية، فهو يحرسها من رغباتٍ قد تلتهمها. هناك قيدٌ يصونك، وآخر يُطفئك، والفارق بينهما أن الأول من وعي والثاني من خوف. تغري الحياة الإنسان أن يكون نسخة من غيره: العادات .. الشهرة .. المجاملات .. وحتى الحبّ أحيانا.
وكلّما ازدادت الدعوات إلى التشابه، ازددتُ يقينا أن طريقي يمرّ بي وحدي.
ففي اختلافك عن الآخرين نجاتك منهم، وفي صدقك مع نفسك خلاصك منها.
ومن بين كل الأصوات سمعتُ نداء خافتا يقول لي:
((كن كما أنت، ولو كنت وحدك.))
ومن تلك اللحظة أدركتُ أني لم أعد بحاجة إلى انتصار يُصفّق له أحد.
اليوم لا أفتّش عن الحرية في الشعارات ولا في النصوص، وجدتُها حين غفلت العيون عني وجلستُ أمام نفسي في صدقٍ كامل. لم أعد أحتاج إلى أن أُثبت شيئا، ولا أن أبرّر شيئا، فقد صار الصمت لغتي، والرضا راحتي، والنقاء سكناي.
لم أعد أطلب من العالم أن يفهمني، يكفيني أني فهمت نفسي.
هُنا كنتُ حرّا …
في تلك المساحة التي لا يدخلها أحد سواي، حين صار الصدق قانوني .. والسكون قراري، والطمأنينة عالمي.
ومنذ ذلك اليوم، كلّما أغمضتُ عيني،
رأيتُ في داخلي نورا هادئا يهمس لي:
((ابقَ كما أنت… فقد وصلت.))

كاتب رأي

فيصل مرعي الكثيري

أديب وكاتب رأي

‫2 تعليقات

  1. كلمات تعبر عن عمق الإنسان ..وان الإنسان الممتلئ من الداخل لايعنيه رأي الآخرين او تقييمهم له.
    فهو يعيش السلام الدخلي ويتغذى عليه.
    حروف تجعل من يقرأها يُعييد النظر كيف عليه ان يعيش..
    شكراً لك..

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى