هويتنا صخرة لا تنكسر

هويتنا صخرة لا تنكسر
محمد الفريدي
الهوية ليست مجرد اسم على بطاقة شخصية أو جواز سفر، وليست علما يرفرف في الهواء أو شعارا نعلقه على الجدران؛ بل هي نبض داخلي، وإحساس عميق، وشعور بالانتماء، وإجابة صادقة على سؤال: لماذا نحن هنا؟ ومن نكون؟
هي جذورنا التي تسندنا حين تتقاذفنا رياح الحياة والتغيّر، ودرعنا الذي يحفظنا من الذوبان في عالم يطحن الفوارق بين الجميع، ويصبغنا بلون واحد.
حين نفقد هويتنا، نصبح كمن فقد مرآته؛ لا يرى نفسه ولا يعرف كيف يراه الآخرون، ونصير نسخا باهتة، نردد ما يُقال لنا فقط، ونحمل ملامح لا تشبه أرواحنا، ونتحول إلى قشرة هشة، تسقط عند أول اختبار.
فالهوية ليست هبة تُمنح صدفة، ولا إرثا يصلنا كاملا بلا تعب ، بل تُشيَّد عبر تجاربنا، وتُصقل في كل مواجهة مع ذاتنا، وتتشكل في كل لحظة نقرر فيها أن نكون نحن كما نحن، لا كما يفرضها علينا العالم من حولنا، وحين نتمسك بها تصبح مرآتنا الصادقة وبوصلتنا التي لا تخطئ الاتجاه، فنمضي في طريقنا بثبات مهما تعددت الأصوات من حولنا، ومهما حاولت الأقنعة المزيّفة أن تغوينا بملامح ليست لنا.
في زمن العولمة وتوحيد الأشكال والشعوب والملامح، تصبح هويتنا حصننا الداخلي وميزاننا الذي نميّز به الغث من السمين، والأصيل من الدخيل، أمّا الشعوب التي تفقد هويتها، فقد تبدو متماسكة في ظاهرها، لكن في أعماقها فراغ ينتظر أن يُملأ بما يُلقيه الآخرون.
إنَّ الهوية ليست انعزالا عن العالم، بل انفتاحٌ متوازن لا يذيب الذات، وانتماءٌ واع لا يتحوّل إلى تبعية، وهي علاقة متجددة بين ما نحن عليه وما نريد أن نصبح، علاقة تحفظ جذورنا وتسمح لأغصاننا بأن تمتد نحو ضوء جديد.
والحفاظ عليها مسؤولية تبدأ من البيت، وتترسّخ في المدرسة، وتُصان في المجتمع، ويجب أن نغرس في أجيالنا القادمة الفخر بهويتهم، لا بوصفها ماضيا جامدا وانتهى، بل بوصفها أساسا حيّا ينمو معهم في المستقبل؛ فالإنسان بلا هوية كالسفينة بلا بوصلة، تتيه في بحر لا يرحم، والشعوب التي بلا هوية كالأشجار بلا جذور، قد تبدو شامخة، لكنها أول من تسقط إذا هبّت الريح.
والهوية لا تحتاج إلى كلمات كثيرة، بل إلى لحظة تأمّل صادقة مع النفس، وحين نقف في مواجهة أنفسنا، ونستمع إلى أصواتنا الداخلية، سندرك أن هويتنا ليست مجرد أسماء أو انتماءات تُكتب أو تُنطق، بل هي حياة تُعاش، وشعور بالانتماء يدفعنا للصمود حين تنهار المآسي من حولنا، ونتمسّك بجذورنا حين تحاول رياح التغريب أن تجرفنا بعيدا عن أصالتنا، وهي القوة التي تدفعنا لنقول: “نحن هنا” بكل ثقة، لا أن نخفي أنفسنا خلف أقنعة وصور مزيفة.
وفي خضم ضجيجنا وضياعنا، هويتنا مرساتنا التي نستقر عليها حين تشتد العواصف والرياح، وأشرعتنا التي ترفعنا نحو مستقبل لا يُبنى إلا على ثوابتنا وقيمنا، وسفينتنا التي تحمل أحلامنا فوق أمواج الصعاب، فلا نضل الطريق ولا نفقد البوصلة، ونمضي بكل ثقة نحو غد نصنعه بأيدينا، ونور قلوبنا دليلنا.
لذلك، يجب ألا نغفل أن انتماءنا ليس مجرد قناع نرتديه أمام الآخرين، بل هو قلبنا النابض بالوطنية، والحقيقة الأزلية التي اخترناها بكامل إرادتنا، وهو ذلك الضوء الخافت الذي يضيء لنا دروب الحياة حين تظلم الدنيا في وجوهنا، والذي يذكرنا بأننا لسنا وحدنا في هذه الرحلة، بل جزء من كيان عظيم يضمنا جميعًا، ويجمعنا على قيم وأصالة لا تزول أبدا، وانتماؤنا هي بوصلتنا التي لا تخطئ مهما تبدلت الظروف وتغيرت الأيام.
هويتنا ليست هدية تُهدى أو تُباع، بل اختيارنا اليومي، وعملنا الصادق، واجتهادنا المستمر للحفاظ على نبضنا، والعيش بإصرار لا ينكسر رغم كل التحديات التي تواجهنا، لأنها سرّ ثباتنا وقوتنا الحقيقية التي نبني بها دولتنا ونحقق معها الأحلام.
وهذا الوعي هو الذي يجعلنا لا نذوب في ازدحام الأفكار والانتماءات، بل نثبت جذورنا، ونزرع في تربة أرواحنا شجرة صلبة تقف في وجه العواصف، تمنحنا الظل والسكينة، وتثمر بصبر وعطاء لا ينضب، ليظل عبير هويتنا عطرا يملأ أجواء حياتنا، ونحمل في قلوبنا شعلة لا تنطفئ، تضيء لنا الطريق في أوقات الظلام، وتلهمنا لنمضي قدما رغم كل الصعاب، مؤمنين بأن الحفاظ عليها واجبٌ ومسؤولية، وأساسٌ لبناء مستقبل مشرق يليق بأحلامنا وطموحاتنا.
إنها دعوة لكل واحد منا أن يبحث في أعماقه عن جوهره وقيمه الثابتة، وأن يستعيد تواصله مع ذاته النقية، وألا يترك الجواب لأحد غيره، لأنه وحده القادر على صنع هويته وتحديد مسار حياته بصدق وإخلاص، فلا يسمح للضجيج من حوله بأن يطمس صوته الداخلي، ولا يدع الخوفَ والشكَّ يمنعانه من التعبير عن ذاته وهويته بكل حرية وثقة وشفافية.
وبذلك، تصبح هويتنا ليست مجرد بطاقة أحوال أو تاريخ أو مكان ميلاد، بل هي وطن ينبض في داخلنا، نعود إليه دائما مهما طال سفرنا، ومهما بدت طرقنا صعبة ومعقدة، وهي ملاذنا الآمن الذي نستمد منه القوة والإلهام، والنبراس الذي يضيء لنا دروب حياتنا في كل مراحلنا.
لا نهضة لنا بلا هويتنا، ولا حياة لنا بلا جذورنا، ولا صوت حقيقي لنا بلا معرفة ذواتنا، فلنحافظ عليهما كما نحافظ على أرواحنا، فهي ليست مجرد ملك لنا وحدنا، بل هي أساس وجودنا وعمادنا وكينونتنا، وجسرنا الذي يربطنا بماضينا وحاضرنا ومستقبلنا، ولا نتهاون في الحفاظ عليهما، لأنها سر قوتنا وثباتنا أمام التحديات التي تواجهنا.
حين تهتز هويتنا، يهتز كياننا بأكمله، وتصبح أيامنا رمادية، وأماكننا بلا معنى، ووجوهنا في المرآة لا تعكس ما في قلوبنا، بل تبدو كقشرة صماء تحاكي أجسادا بلا أرواح، وقلوبا خاوية من العطاء، وعقولا أسيرة للضياع والتخبط والانكسار، ولا نجد في داخلنا بوصلة ترشدنا، ولا نورا يضيء لنا دروب الحقيقة، فنغرق في تمزق داخلي قاتل يلفنا من كل جانب، وحينها ندرك أن فقدان الهوية ليس مجرد غياب للانتماء، بل موت بطيء لوطن يسكن فينا قبل أن نسكن فيه.
وليس من السهل أن نظل ثابتين في زمن تتسارع فيه الرياح، وتتقلب فيه القيم والمفاهيم، ونُجبر على أن نكون نُسَخا مكرَّرة من غيرنا في الخارج، فهويتنا هي قلعتنا التي تحمينا من هذه العواصف، وصوتنا الصامت الذي لا يتوقف عن تذكيرنا بأننا لسنا مجرد أرقام أو أسماء في سجلات حكومية، بل نحن قصص كفاح، وتواريخ، وأمل، وهويتنا، بصلابتها وجذورها العميقة، هي التي تمنحنا القوة لنكون متميزين في عالم يميل إلى النسخ المكرَّرة، وتجعلنا قادرين على مواجهة الرياح مهما اشتدت، لنكتب قصتنا بأنفسنا ونترك بصمتنا الفريدة في هذا الوجود، إرثا نمنحه للأجيال القادمة، ودليلا على كفاحنا وتمسّكنا بهويتنا.
أحيانا ننسى أنفسنا، لأننا لم نلتقِ بها من قبل كثيرا، أو لأننا لم نجد الوقت الكافي لنسألها الأسئلة الصعبة، الصحيحة، والصريحة، فنحتاج أن نتوقف للحظة، ننظر في أعماقنا بلا خجل ولا خوف، لنكتشف أن هناك أكثر مما نراه على السطح. فهويتنا هي اللقاء الحقيقي بين أنفسنا وذواتنا، وهي المسافة التي نقطعها لنتصالح مع ماضينا وحاضرنا، ونعيد رسم ملامحنا التي تاهت وتشوهت بما فُرض علينا، فهي ليست صورة يرسمها الآخرون لنا، بل حقيقة نصنعها نحن بأنفسنا، ونحياها بكل ثقة، وحرية، ومسؤولية.
في عالم اليوم، حيث تُباع الصور المغلّفة والأوهام الجاهزة، أصبحت هويتنا حلما بعيد المنال، يطاردنا دون أن نلمسه، فتلاشت حقيقتنا أمام أعيننا وسط زحام الأقنعة والتمثيلات، وأنفسنا تبحث عن ذاتها وسط ضباب التشويش والضياع، ولكن، رغم هذا التشويش، لا تزال شعلة صغيرة منها متقدة في داخلنا، تدعونا للتمسك بجذورنا وقيمنا، وتحثنا على أن نكون صادقين مع أنفسنا لنشق طريقنا نحو مستقبل عميق، لا يخضع لتقلبات العصر أو لضغوط التبعية، فهي الشعلة التي تضيء لنا الطريق في الظلام، وتذكرنا دوما بأننا قادرون على صياغة حياتنا بأنفسنا، وأن هويتنا ليست مجرد أثر من الماضي، بل قوة حيّة حقيقية تمنحنا القدرة على مواجهة كل التحديات بثبات وشجاعة منقطعة النظير.
هويتنا ليست مجرد كلمات تُقال أو شعارات تُرفع، بل هي أفعال يومية نمارسها بحب وإخلاص، دون أن تُملِ علينا من أحد.
هي أن نحترم تاريخنا، لا لنعيش في الماضي، بل لنستلهم منه القوة والعبر.
وهي أن نفخر بأصولنا، لا لبناء جدران تحيط بنا، بل لنبني جسورا تربطنا بالعالم من حولنا.
هي أن ندرك أن قيمنا ومبادئنا ليست عبئا علينا أو على أحد، بل هي هويتنا التي تشع نورا من داخلنا، ليهتدي به الآخرون.
ولا يكفي أن نردد: “نحن من هنا”، بل يجب أن ندرك ماذا يعني “من هنا” في أعماقنا، وكيف يجعل منا شعبا فريدا لا يتكرر. فرحلتنا ليست قصيرة ولا سهلة، لكنها الرحلة الوحيدة التي يجب أن نعيشها بكل فخر وإصرار وأصالة ووفاء لجذورنا وقيمنا، لنترك أثرا خالدا من بعدنا للأجيال القادمة.
لذلك، على كل واحد منا التوقف عن الركض المحموم خلف تقاليد ليست لنا، وأن نستمع إلى ذلك الصوت الداخلي الذي يسألنا: من نحن؟
حينها ستبدأ رحلة عودتنا إلى ذاتنا، ونبني هويتنا التي لا تهتز، ونصمد أمام تقلبات الزمن، وتمنحنا الثبات حين يتغير العالم من حولنا.
فهويتنا هي وطننا الحقيقي، وليست المكان الذي نعيش فيه فقط، بل هي ذلك النور الذي يضيء دروبنا في أحلك الظروف، ويجعلنا نرتقي فوق العواصف، ونكتب قصتنا بأيدينا، ونعيشها بكل شجاعة وصدق.
هي جوهر كينونتنا، وروح ثباتنا وصلابتنا، وهي الشعلة التي لا تنطفئ في داخلنا مهما اشتدت الظلمات، والمرسى الذي نلجأ إليه حين تتلاطم بنا أمواج الحياة، والحفاظ عليها ليس خيارا، بل واجبٌ مقدس نحمله بأمانة لأجيالنا القادمة، فلنقف جميعا بكل فخر وإرادة، ونعلن أن هويتنا ليست للبيع ولا للمساومة، بل هي تاج مجدنا الذي نرتديه، وحصن أماننا الذي يحفظنا، وأمل مستقبلنا الذي صنعناه بأيدينا.
لقد بذل آباؤنا وأجدادنا جهدا كبيرا في سبيل تشكيل هويتنا، وضحّوا بالغالي والنفيس لترسيخها في أعماق الأرض، وها نحن نعتز بها ونحافظ عليها اليوم، ونفتخر بها ونورثها لأجيالنا القادمة، لتظل نبضنا الحي الذي يجمعنا ويقوينا مهما تغيرت الأزمنة، وشعلتنا المضيئة التي تهدي دروبنا نحو مستقبل أكثر صلابة وعزيمة. فبدونها لن نستطيع حراسة حدودنا، ولا حسم قضايانا، ولا حماية أراضينا في ظل هيمنة توراتية-إنجيلية تسعيان بالقوة إلى محو هويتنا وجعل أراضينا مستباحة وجزءاً من “إسرائيلها الكبرى”.
رووعاتك ا. محمد دائما تسطر كلمات من ذهب
الله يسعدك أستاذة سميرة 🌹 شهادتك وسام أعتز به، ودعمك الدائم حافز كبير لي.
أخوك أبو سلطان
احسنت أحسنت استاذ محمد الفريدي.هويتنا أقوى من الصخرة .
أهلا أستاذة أمينة 🌹
شكرا لجميل كلماتك، وصدقتِ… هويتنا هي الصخرة التي نرتكز عليها، وهي الثبات الذي يمنحنا القوة مهما عصفت بنا التحديات.
أخوك أبو سلطان