كُتاب الرأي

نهج السعادة .. احتياجات (الجانب الروحي) ٢

 

……..
تحدثنا في مقال سابق عن احتياجات الإنسان الروحية التي تشير إلى الجوانب النفسية والمعنوية التي تلبي رغبة الإنسان في حاجتي (الإيمان والاعتقاد ، البحث عن المعنى والغاية من الحياة) لنكمل حديثنا في هذا المقال عن بقية هذه الاحتياجات وهي:
٣-التأمل والتفكر والتدبر:
قبل أن نتحدث عن هذه الحاجة الروحية المهمة يجب تعريف كل مصطلح على حدى للتوضيح:
التأمل هو في أصل اللغة في (أمل) التي تدل على التثبت والانتظار..
أما التفكر فمأخوذ من مادة(فكر)التي تدل على تردد القلب في الشيء..
بينما التدبر فمأخوذ من مادة (دبر) التي يقصد بها النظر في عواقب الأمور..
من الناحية الاصطلاحية : التأمل هو إدامة النظر والتثبت ، بمعنى تدقيق النظر في الكائنات بغرض الاتعاظ والتذكر..
بينما التفكر هو جولان الفكرة وهي القوة المطرقة للعلم..
أما التدبر معناه النظر في عواقب الأمور وما تصير إليه الأشياء أي أنه يتجاوز الحاضر إلى المستقبل..

الله تبارك وتعالى أنعم على الإنسان بنعمة العقل وجعله مناطَ التكليف ، وعندما يُعطل الإنسان عقله يهبط بنفسه عن التكريم الذي ميَّزهُ الله به عن سائر المخلوقات ، ولذلك فإن إعمال العقل فيه حياة للإنسان لعله يفتحُ آفاقًا لأهمية التأمل ودوره الكبير في الوصول إلى الحكمة ؛ من خلال العبادات ، أو يقرِّب مفهومها وأهميتها ومجالاتها وثمارها ، وقد اهتم علماء المسلمين بهذا ، وبيَّنوا آثارها على صلاح الفرد والمجتمع ، فهي عبادة قلبية خالصة تنمي في النفس عظمةَ الله عز وجل ، وتأخذ به للوصول إلى الحِكم التي أرادها الله عز وجل ، من أجل النهوض والتطور ، ثم الطمأنينة والسكينة التي تظهر على سلوك الأفراد..
ديننا الإسلامي أمرنا كجزء من العبادات الروحية بهذه الأمور الثلاثة(التفكر ، التأمل ، التدبر) لأغراض كثيرة منها :
أ- أمر الله تعالى إلى تدبر آيات القرآن الكريم واعتبر هذا التدبر من غايات إنزاله للناس ، لقد أنزل الله القرآن الكريم وأمرنا بتدبره والتفكُّر في آياته وفهمها لتستقيم بها حياتنا وليس مجرد تلاوته أو حفظه فقط ، قال تعالى: (كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُو الْأَلْبَابِ) سورة ص، آية 29.
تدبر الآيات يعني التأمل فيها والغوص في معانيها ، والتعمق في فهمها ، يقول تعالى: ﴿وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ﴾ [سورة النحل، الآية: 44] ، ويقول تعالى: ﴿كَذَٰلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآيَاتِ لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ﴾ [سورة البقرة، الآية: 219] ، وقال تعالى: (أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ القُرْآَنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلَافًا كَثِيرًا) النساء (82) ، وقوله تعالى : (أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ القُرْآَنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا) محمد (24) ، حيث أنَّ هذه الآية فيها توبيخٌ عظيمٌ على ترك التدبر في القرآن الكريم ..
التدبر في القرآن والتفكُّر في معانيه أمر يحكم به العقل , لأنَّه نظام إلهي..
ب-كذلك أمر الله تعالى بالتفكر في النفس الإنسانية قال: {وَفِي أَنفُسِكُمْ أَفَلَا تُبْصِرُونَ }(الذاريات:21) ، النظر في مبدأ خلقك ؛ من نطفة إلى علقة إلى مُضغة ، حتى صرتَ بشراً كامل الخَلْق ، مكتمل الأعضاء الظاهرة والباطنة ؛ هذا النظرُ يلجئك إلى الاعتراف بالربِّ القادرِ على كل شيء، الذي أحاط علمه بكل شيء ، الحكيمِ في كلِّ ما خلقه وصنعه ، كما أن التفكير في خلق النفس الإنسانية لزيادة الإيمان وتمكينه داخل الروح والعقل ، طريق للتفقه للانتفاع بالمخلوقات وحل المشكلات ، فإنّ مشاكل الإنسان لا تقتصر على الأمراض الجسمانية وحدها، فهناك أمراض نفسية، وأخرى مجتمعية، تتعلق بالسلوكات الإنسانية، والأحوال النفسية لبني آدم ، ومن هنا فإن التفكر قد يدخل في مثل هذه المجالات أيضاً ، فيساعد على إيجاد الحلول المبتكرة لمشكلاتها..
ج-التفكير والتفكُّر الذي يجنب الباطل هو التفكّر في خلق الله للسماوات والأرض قوله تعالى: ﴿وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلا سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ﴾[آل عمران: 191]..
د-تقليب النظر في بديع صُنع الله سبحانه وتعالى في هذا الكون البديع من باب الترويح عن النفس والسمو بها والإرتقاء بفكرها والوقوف على عظمة الله سبحانه وتعالى في جمال واتقان صنع الله له ، قال تعالى :(بَدِيعُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ ۖ أَنَّىٰ يَكُونُ لَهُ وَلَدٌ وَلَمْ تَكُن لَّهُ صَاحِبَةٌ ۖ وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ ۖ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ) الأنعام (101) ، وقال تعالى:(بَدِيعُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ ۖ وَإِذَا قَضَىٰ أَمْرًا فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُن فَيَكُونُ) البقرة (117) ، قال تعالى:(وَتَرَى الْجِبَالَ تَحْسَبُهَا جَامِدَةً وَهِيَ تَمُرُّ مَرَّ السَّحَابِ ۚ صُنْعَ اللَّهِ الَّذِي أَتْقَنَ كُلَّ شَيْءٍ ۚ إِنَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَفْعَلُونَ) النمل (88)..

لذا على الفرد الذي يطمح أن يُشبع حاجته الروحية أن يقوم بتخصيص وقت للتأمل الذاتي والتفكر في أسرار الكون و الحياة ، فممارسة التأمل أو العبادات الروحية مهم لتعزيز الصفاء الذهني وتساهم في تعزيز الصحة النفسية والشعور بالرضا والسلام الداخلي والسعادة ، مما ينعكس إيجابيًا على حياة الإنسان بشكل عام..
……….

الكاتبة / أحلام أحمد بكري

أحلام أحمد بكري

كاتبة رأي وقاصة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى