نموذج للنص التأسيسي للمسرح العربي..
نموذج للنص التأسيسي للمسرح العربي..
في زحمة التحولات الكبرى التي شهدها المسرح العربي في ستينيات القرن الماضي، برزت أعمال حملت على عاتقها مهمة تجاوز الترف الفني إلى طرح الأسئلة الكبرى عن الحرية والوعي والعدالة، ومن بين هذه الأعمال جاءت مسرحية «الفيل يا ملك الزمان» كصرخة مدوّية في وجه الخذلان وكمرآة عكست مأساة إنسانٍ عربيٍّ يعيش بين القهر والصمت المرير .
هذه المسرحية لم تكن مجرد نص أدبي يُقرأ أو يُعرض على خشبة المسرح، بل كانت مشروعًا فكريًا متكاملاً، سعى من خلاله ونوس إلى تأسيس وعي مسرحي جديد يجعل من الخشبة منبرًا للنقاش والطرح والتنوير، فغدت علامة فارقة في تاريخ المسرح العربي ونصًا خالدًا يعيد تشكيل الأسئلة كلما أعيدت قراءته أو تم عرضه.
مسرحية «الفيل يا ملك الزمان» هي للكاتب السوري الراحل سعد الله ونوس، تلك المسرحية التي تعد واحدة من أبرز علامات المسرح العربي الحديث وأكثر النصوص الدرامية رمزية وعمقًا.
هذا العمل، على قصره، حمل دلالات عميقة في النقد، وجعل من ونوس واحدًا من أهم روّاد المسرح الرمزي في العالم العربي. تدور أحداث المسرحية في فضاءٍ رمزي يبدأ بزقاق ضيق يمثل ضيق الحياة اليومية للناس تحت سلطة غاشمة، وينتقل إلى الساحات العامة، ثم إلى قصر الملك، حيث يظهر التناقض الواضح بين الفخامة الظاهرية وحقيقة القهر الكامن خلف الأبواب المغلقة. ولعل أبرز ما يميز هذه المسرحية هو بناؤها الفني المتقن، فقد اعتمد ونوس على الحوار المكثف الذي يعبّر عن الأفكار العميقة بأقل عدد ممكن من الكلمات، كما وظّف الإرشادات المسرحية والإضاءة لتعميق الحالة النفسية للشخصيات وتوضيح الفوارق بين عوالم الخوف والصمت وعوالم المقاومة والتحدي.
لقد تناول النقاد هذه المسرحية بالتحليل والدراسة على مدار عقود، وعدّوها نصًا تأسيسيًا للمسرح السياسي العربي، إذ ربطوا بين رمزية “الفيل” بوصفه تجسيدًا للبطش، وبين شخصية “الملك” التي تمثل الحاكم المستبد والمتشبث بالسلطة مهما كلّف الأمر.
كما رأى محللون آخرون أن الفيل ليس مجرد رمز للسلطة فحسب، بل قد يكون استعارة لأي قوة متغوّلة في حياة الشعوبب، سواء كانت نظامًا سياسيًا أو منظومة فساد أو حتى إعلامًا مضللاً.، هذه القراءات العديدة جعلت النص حيًّا ومفتوحًا على مستويات متعددة من التأويل، بحيث يظل صالحًا للعرض في أزمنة وأماكن مختلفة، ويجد الجمهور نفسه فيه مهما اختلفت السياقات التاريخية.
اللغة التي صاغ بها ونوس نصه جاءت مكثفة وشعرية في آن واحد، ما منح المسرحية بعدًا فنيًا وجماليًا جعلها قابلة للدراسة الأكاديمية والتحليل الأدبي. فقد أشاد النقاد بطريقة توظيفه للجمل الحوارية القصيرة التي تحمل ثِقل المعنى ورمزية الإشارات المسرحية، وكذلك استخدامه الذكي للإضاءة كأداة درامية تنقل الجمهور بين مشاهد الخوف واليقين، والظلام والنور، والانهزام والمقاومة. كل ذلك جعل المسرحية مثالًا يُحتذى به في كيفية الدمج بين البنية الفنية المحكمة والرسالة الفكرية العميقة.
وقد لاقت هذه المسرحية اهتمامًا واسعًا في الوسط المسرحي العربي والدولي، إذ أعيد عرضها في مهرجانات عديدة، كان آخرها مهرجان الدوحة المسرحي، حيث قدّمها طلاب المعهد العالي للفنون الدرامية برؤية إخراجية جديدة أعادت قراءة النص في ضوء القضايا المعاصرة. كما أخرجها المخرج السوري ماهر صليبي في عرض مميز حافظ على النص الأصلي باللغة الفصحى ليبرز قوته البلاغية وعمقه الرمزي. هذه العروض المتجددة دليل على أن النص لا يزال يحتفظ بحيويته وطاقته الدرامية رغم مرور عقود على كتابته.
إن أهمية مسرحية «الفيل يا ملك الزمان» تكمن في قدرتها على أن تكون مرآة تعكس واقع المجتمعات وصراعاتها مع القهر والاستبداد. فهي ليست مجرد حكاية مسرحية قصيرة، بل وثيقة فنية واجتماعية تتجاوز حدود الزمان والمكان، وتدعو المتلقي إلى التأمل في أثر الصمت والخوف، وإلى إدراك أن التغيير يبدأ من كسر حاجز الرهبة ومواجهة “الفيل” الذي يسكن تفاصيل الحياة اليومية. لقد نجح سعد الله ونوس في أن يقدّم نصًا خالدًا، يُدرّس في المعاهد والجامعات كنموذج للمسرح الرمزي السياسي، ويُلهم الأجيال الجديدة من المبدعين لإعادة التفكير في دور المسرح كأداة للتنوير وكسر القيود هكذا تبقى «الفيل يا ملك الزمان» شاهدة على عبقرية كاتبها، وحاضرة في الذاكرة المسرحية بوصفها عملاً لا ينتهي أثره عند إسدال الستار، بل يبدأ تأثيره في وعي المتلقي لحظة مغادرته قاعة العرض.
د. عبدالرحمن الوعلان
