كُتاب الرأي
نعمة استشعار النعم

باسم سلامه القليطي
نعمة استشعار النعم
يعيش العالم هذه الأيام أجواء قاتمة الألوان، بشعة الملامح، تتوزع فيها الأخبار بين حروب قائمة وأخرى قادمة، ومجاعات محزنة وأخرى مرتقبة، وتتنوع فيها المآسي بين شعوب مشردة معذبة، وبين نقص حاد في موارد الطعام والمياه، يوشك أن يتفاقم خلال السنوات القريبة، فتزداد بسببه الأزمات والصراعات، مهددة الأمن والاستقرار على وجه الكره الأرضية.
وبما أننا جزء من هذا العالم نؤثر فيه ونتأثر به، فإن تبعات هذه الأحداث تصلنا وتزعجنا، ومن ذلك ارتفاع الأسعار، وأطماع بعض التجار، نسأل الله الرحمة والسلامة، ومع هذا التخبط والترقب، فإننا ولله الحمد والمنه نعيش في بحر من النعم، يحتاج منّا عقلاً يستشعر، ولساناً يحمد ويشكر، فالإنسان المنصف المتبصر، إن تأمل نعم الله في نفسه وحوله وجدها أكبر وأكثر.
افتح أي كتاب في الأحياء، لترى تعقيدات الأجهزة، وتفاصيل الأعضاء في جسمك، ستندهش وتستشعر وتكبّر، وافتح إن شئت أي كتاب في الفيزياء أو الكيمياء، لترى تراكيب المواد ودقتها، إلكترونات وجزيئات ونواة، اختلفت هذه عن هذه عن تلك، سبحان من أوجدها، وافتح كتابا في الجغرافيا أو الفلك ستصل لذات النتيجة وتذهل، وقبل هذا ومعه وبعده، افتح كتاب ربك العظيم، لتجد الآيات الكريمة تدعوك للتفكر والتدبر في مخلوقات الخالق عزّ وجلّ، عندها لا يسعك سوى اليقين بما رأيت وسمعت وعقلت، وأن الخالق العظيم المنعم الكريم يستحق دوام الحمد والشكر.
الاعتياد والضجر آفتان تصيبان الاستشعار في مقتل، فتجد الشاب يتذمر من أمه كونها تكرر طبخ طعام معين مرتين أو ثلاثة في الأسبوع، وهو مما لا يتوفر لمئات الملايين من البشر، وتجد الفتاه تشتكي أهلها مرور بضع شهور أو عام على الأكثر، على آخر جهاز اتصال اشترته، وهي لا تستشعر أن امتلاكه حلم مئات ملايين البشر، قال أحد الحكماء: “كنت أحسد من عنده حذاء إلى أن رأيت رجلاً بلا قدمين”.
لو أردت الخروج من منطقة الاعتياد والضجر، تأمل في الكهرباء التي أصبحت أساسا في حياتنا ولا نتخيلها بدونها، عندما تقطع هذه الكهرباء عن بيتك، ستجد روح البيت خرجت لو كان البيت جسدا، ويصبح جثة هامدة، لا حركة فيه سوى الارتباك، ولا صوت فيه سوى التأفف، وبعد مرور الصدمة بلحظات تستشعر أهمية الكهرباء بعد أن نسيتها، وتدعو الله أن يعيدها، وكل نعم الله كذلك، لا تستشعر قيمتها إلا إن اضطربت أو فُقدت، فلا تكن ممن لا يستشعر حتى يخسر، فقد تكون الخسارة أبديّة.
(حرية الاختيار) أو قل إن شئت (رفاهية الاختيار)، عند شراء الطعام والملابس وغيرها من الأشياء، وكذلك التعامل المالي اليومي عبر البطاقات المصرفية أو التحويلات البنكية، والشراء من خلال التطبيقات الإلكترونية، جميعها باعدت كثيراً بيننا وبين نعمة استشعار النعم، بسبب سرعة الوصول إليك، وسهولة الحصول عليها.
ولقد كان الصحابة رضي الله عنهم والسلف الصالح يجلسون مجالس تذكرهم بنعم الله وفضله عليهم، فيزدادون حباً وتعظيماً وحمداً له سبحانه وتعالى، عن معاوية رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم خرج على حلقة من أصحابه، فقال: ما أجلسكم؟ قالوا: جلسنا نذكر الله ونحمده على ما هدانا للإسلام، ومنّ به علينا، قال: آلله ما أجلسكم إلا ذاك؟ قالوا: والله ما أجلسنا إلا ذاك، قال: أما إني لم أستحلفكم تهمة لكم، ولكنه أتاني جبريل فأخبرني أن الله عز وجل يباهي بكم الملائكة.
وجلس الفضيل بن عياض وسفيان بن عيينة ليلة إلى الصباح يتذاكرون النعم، فجعل سفيان يقول: أنعم الله علينا في كذا، فعل بنا كذا، فعل بنا كذا.