كُتاب الرأي

نشر الكتب بين الكم والكيف

نشر الكتب بين الكم والكيف

في زمنٍ لم يعد فيه الوصول إلى النشر معجزة ولا طباعة الكتب حلمًا بعيدًا، ظهرت على السطح ظاهرة لافتة تستحق التأمل، سهولة نشر الكتب بلا معيارية، فلم يعد الكاتب في عصرنا يحتاج إلى دار نشر تقوّم عمله أو لجنة تقرّ رأيًا في جدارة ما كتب، بل أصبح يكفيه أن يمتلك حسابًا في مواقع التواصل الاجتماعي أو مبلغًا ماليًا يدفعه لإحدى دور النشر التجارية، ليجد اسمه على غلاف كتاب يعرض في المعارض الدولية.
في الماضي، كان تأليف كتاب مسؤولية فكرية وعلمية، تمرّ بمراحل من التمحيص والمراجعة والنقد، ولم يكن النشر متاحًا إلا لمن يمتلك أدوات الكتابة الأصيلة: فكرًا ومنهجًا وأسلوبًا ومعرفةً عميقة بموضوعه، وكان الكاتب يقضي سنوات في إعداد مؤلف واحد، يقدمه للقارئ باعتزاز بعد أن يتأكد من قيمته العلمية أو الأدبية؛ ولهذا بقيت كتب أولئك الرواد تشكل الذاكرة الثقافية للأمة، ويعاد طبعها جيلاً بعد جيل.
أما اليوم، فقد تحولت الساحة الثقافية إلى ما يشبه سوقًا مفتوحًا بلا رقيب؛ فبمجرد أن يحظى أحدهم بشهرة على وسائل التواصل الاجتماعي، يصبح من السهل أن يوقّع عقدًا لنشر “كتاب”، مهما كان محتواه سطحيًا أو مكررًا، ورأينا مؤثرين في مجالات بعيدة عن الأدب والفكر يصدرون مذكراتهم أو خواطرهم على رفوف المعارض، وتحظى بإقبال جماهيري لا لأنها ذات قيمة فكرية، بل لأن أسماءهم رنانة في عالم الشهرة الرقمية.
وفي الوقت نفسه، كثُر كُتّاب الرواية، وأصبحت كل دار نشر تقريبًا تطلق كل يوم عناوين جديدة في هذا الجنس الأدبي. غير أن كثيرًا من هذه الأعمال تفتقر إلى الحبكة، والعمق الفني، واللغة الأدبية التي تمنح الرواية قيمتها، وتحوّلت الرواية من فنٍّ يتطلب تجربة حياتية وثقافية ثرية إلى مساحة مفتوحة لكل من يرغب في الظهور الأدبي، حتى بات بعض القرّاء يجدون صعوبة في التمييز بين العمل الروائي الحقيقي ونصوصٍ لا تتجاوز كونها خاطرة مطوّلة أو قصة عابرة.
هذه الظاهرة لا تُلام فيها دور النشر وحدها، فهي تتعامل بمنطق السوق والربح، بل تمتد المسؤولية إلى الوعي القرائي العام. فحين يتحول الكتاب إلى سلعة للعرض فقط، يفقد رسالته التنويرية، ولا يمكن أن نطالب القارئ العادي بالتمييز ما لم نعمل على إحياء الذائقة الثقافية وإعادة الاعتبار للكتاب الجاد والمؤلف المتمكن.
وفي الوقت ذاته، تُعتبر الكتب ركيزة أساسية لتنمية الثقافة والفكر، فهي الجسر الذي يصل بين الماضي والحاضر، وتُسهم في تشكيل الوعي المجتمعي وصون الهوية الثقافية للأمم. إلا أن العالم العربي ما زال يواجه تحديات هيكلية في صناعة النشر رغم إرثه الأدبي العريق.
فبحسب دراسة لاتحاد الناشرين والطباعة العرب عام 2023، أنتج العالم العربي نحو 17,500 عنوانًا فقط في عام 2022، أي ما يعادل 1.5% من إنتاج الولايات المتحدة التي نشرت أكثر من 1.2 مليون كتاب، في حين تجاوز إنتاج الصين 500 ألف عنوان. أما نصيب الفرد العربي من الكتب فلا يتعدى 8 كتب لكل 1000 شخص، مقارنة بـ230 في أميركا و200 في أوروبا (تقرير اليونسكو 2022).
ويُضاف إلى ذلك أن نسبة القراء المنتظمين لا تتجاوز 3% من السكان وفق دراسة البنك الدولي (2023)، ما يعكس هشاشة العلاقة بين التعليم والثقافة في مجتمعاتنا.
ورغم هذه الفجوة، تشهد السعودية خصوصًا حراكًا ثقافيًا واعدًا ضمن رؤية 2030، عبر معارض الكتب والمهرجانات الأدبية ودعم المؤلفين الشباب، وهو ما يُبشّر ببداية تحول نوعي في وعي المجتمع تجاه القراءة والإنتاج المعرفي. غير أن هذا الانفتاح يحتاج إلى معيار نقدي واضح يضمن الجودة ولا يسمح بانحدار القيمة تحت ضغط الكثرة.
إن ما نحتاج إليه اليوم ليس العودة إلى صرامة الماضي، بل إيجاد توازن بين الانفتاح والجودة والنوعية، فكما أن التقنية منحت الجميع حق النشر، يجب أن يصاحب ذلك تطوير مؤسسات تقويم مستقلة تُعلي من شأن المحتوى القيمي وتشجع على الإنتاج الرصين.
فالكتاب ليس مجرد غلاف أنيق أو وسم شهير على وسائل التواصل، بل أمانة فكرية ورسالة حضارية. وإذا لم ندرك خطورة الانحدار نحو النشر بلا معيارية، سنجد أنفسنا أمام مكتبات ضخمة بلا مضمون، وأجيال تقرأ كثيرًا ولكنها لا تتعلم شيئًا

بقلم د. عبدالرحمن الوعلان

 

الدكتور عبدالرحمن الوعلان

كاتب رأي ومسرح ومعد برامج ومشرف في ظلال المشهد المسرحي وخبر عاجل

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى