كُتاب الرأي

نحن السعوديون مشكلتنا مشكلة

في طفولتنا، كنا نخاف من العسكر، رغم أننا لم نتعرض في مملكتنا ولله الحمد والمنة لحروب أو اضطرابات أمنية أو حروب أهلية.

هذا الخوف كان يدفعنا للهرب عند رؤية أي شخص يرتدي زيا عسكريا، حتى من أمام جارنا الطيب الذي كان يوزع علينا الحلوى، كنا نخاف منه خوفا شديدا إذا ارتدى ملابسه العسكرية.
ربما الحكايات الشعبية التي كانت تروج لبطولات العسكر وشجاعتهم هي سبب خوفنا منهم، أو ربما الصورة العميقة التي ارتبطت في أذهاننا عنهم بالقوة المفرطة والسلطة المطلقة شكلت تلك الصور النمطية في عقولنا الصغيرة آنذاك وأثرت على تصوراتنا.

عموما السلطة والقوة محركان رئيسيان للتفاعلات الاجتماعية والسياسية في أي دولة كانت، وأعتقد أن هذا ما يفسر لنا لماذا كان يتم تصوير العسكر في كل الدول كرموز للقوة والبسالة، وكمصادر للتخويف والتهديد لمن يخالف أنظمتها أو يخل بأمنها.

حفيدتي اليوم، في سن الرابعة من عمرها، لديها نفس مشكلتي حين كنت في مثل سنها، فهي تخاف من العسكر خوفا شديدا، وهذا ما يشكل لغزا بالنسبة لي، وعلي أن أقوم بحله، فكيف لطفلة في هذا العمر أن تخاف خوفا شديدا من العسكر دون سبب يذكر؟
حتى من زميلي الذي كان يزورني بزيه الرسمي بين الحين والآخر ويحمل لها البسكويت والحلويات والألعاب لم تكن تستطيع الاقتراب منه حتى يغير ملابسه العسكرية.

وبعد استشارة بعض الزملاء من المستشارين الأمنيين، والتفكير العميق في هذه الظاهرة، أدركت أن هناك شيئا مرعبا بالنسبة لها مرتبط بالزي العسكري نفسه، وهذا الخوف ينبع من الإحساس بالسلطة والقوة الذي يمثله لها هذا الزي، وتعززه الحكايات التي تصور العسكر على أنهم شخصيات لا تقهر.

وخوف حفيدتي من الزي العسكري قد يكون بسبب تأثير العسكرة على أطفالنا وتشكيل تصوراتهم حول السلطة والقوة والعنف، وهذه العملية في بعض الدول التي يحكمها العسكر يتم من خلالها تشكيل الفكر والسلوك في المجتمع بما يخدم الأيديولوجيات العسكرية التي يرغب في غرسها العسكر.

هذه العسكرة ليست موجودة في حكاياتنا وأفلامنا وفي الدول التي يحكمها العسكر فقط، بل موجودة حتى في الألعاب التي يلعب بها أطفالنا اليوم، وفي أزيائهم التي تروج لها معظم الشركات وترسخ الصور النمطية في أذهان أطفالنا، وتشكل لديهم فهم مبكر في أن القوة لا تأتي إلا من الأسلحة والزي العسكري، وخوفهم من الزي العسكري ما هو إلا انعكاس لتأثير العسكرة المعمول به في بعض الدول التي يحكمها العسكر.

وفي صغرنا نحن كنا كذلك نعاني في ذلك الوقت من رهاب الزي العسكري، وكنا كلما نصادف جنديا نفر منه في حالة ذعر وخوف، على الرغم من أننا لم نرتكب جرما نستحق عليه العقاب، ولا يوجد مبرر لهذا الخوف، والذي على ما يبدو أنه ناجم عن الصورة النمطية والمسلسلات السلبية والأفلام التي أسهمت في تشكيل هذه الصورة السلبية عن العسكريين في أذهاننا باعتبارهم أشخاصا عنيفين ومخيفين، أو ربما لارتباط العسكريين بالقوة والسلطة، لكونهم يحملون الأسلحة ويتمتعون بتدريب ﻭ هيئة معينة، أو ربما لأننا نعيش في منطقة تشهد حروبا وصراعات مسلحة بسبب احتلال فلسطين، أو الانقلابات العسكرية في بعض دول الجوار التي تنام برئيس وتستيقظ برئيس، أصبحنا نخاف من العسكريين بسبب هذه الصورة العامة للعسكريين كأطراف مشاركة في مثل هذه الصراعات.

هذه الظاهرة تطرح تساؤلات عدة حول دور ثقافتنا ومجتمعنا في تشكيل مدارك وعواطف أطفالنا، فيبدو أن مفاهيم العسكرة بما تحملها من قيم القوة والسلطة والنفوذ، مرعبة لهم وتشعرهم بالعجز أمام هذا النوع من السلطة الظاهرة والمطلقة، ووصلت لهم بطريقة أو بأخرى.

فالأطفال كاللوح الأبيض يتأثر بسهولة بالمنبهات المحيطة به، والخوف من الزي العسكري قد يكون مؤشرا على حساسية أطفالنا تجاه الصور والرموز التي تحمل معاني السلطة والقوة والنفوذ، ويمكن أن يسهم فهمنا لخوفهم هذا في تطوير استراتيجياتنا التربوية، ونساعدهم على فهم ومعالجة مشاعرهم تجاه الزي العسكري والسلطة بشكل عام، وذلك أما بالحوارات المفتوحة معهم حول معنى الزي العسكري، والأدوار التي يلعبها العسكر في المجتمع، أو بتحليل وتفكيك الصور النمطية المتعلقة بالعسكرة، وتقديم نظرة أكثر توازن توضيحا لهم أن العسكر أشخاص عاديون يؤدون وظائف محددة، وأنهم ليسوا محاربين فقط، بل هم مساعدون لهم في الأزمات والكوارث الطبيعية، ونعرض عليهم في مدارسهم بالبروجكتر أدوارهم الإنسانية في مناسبات الحج والعمرة والكوارث الطبيعية والحروب، ونفندها لهم بالصوت والصورة لتغيير الصورة الذهنية التي في مخيلتهم.

وإذا استمر الخوف من الزي العسكري في التأثير بشكل كبير على أطفالنا، فمن المفيد اللجوء إلى استشارات مهنية لمساعدتهم على التعامل مع مخاوفهم، فنحن السعوديون مشكلتنا مشكلة، ونختلف عن بقية شعوب العالم بأسره في أننا شعب يستخدم الشرطة كأداة لتخويف أطفاله لكي يناموا مبكرا أو ليتوقفوا عن اللعب والإزعاج، وهذا بصراحة له تأثيرات سلبية على التطور النفسي والعاطفي لأطفالنا، ويؤدي إلى مشكلات في التكيف الاجتماعي والثقة بالنفس، والخوف والقلق، فتهديد الأطفال بالشرطة يزرع في نفوسهم خوفا مستمرا من السلطات الثلاثة في كبرهم، وخصوصا من رجال الأمن، مما يؤدي إلى إضعاف قدرتهم على الثقة بالآخرين وشعورهم بالأمن، ومن المهم ونحن في هذه المرحلة الاستثنائية والتاريخية أن يفهم أطفالنا بأن العسكر أفراد يعملون لحماية بلادهم، ويوفرون الأمن للمواطنين والمقيمين، ويعملون بكل إخلاص وأمانة لتحقيق الأمن والسلامة للجميع، وهذا هو المهم.

محمد الفريدي

محمد الفريدي

رئيس التحرير

تعليق واحد

  1. السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
    ما شاء الله تبارك الله
    أبا سلطان الأستاذ العزيز
    محمد الفريدي
    مقال في غاية الروعة والجمال
    وتصوير دقيق لمشكلة اجتماعية
    يسعى الجميع إلى التخفيف منها
    في أذهان الصغار وحتى بعض الكبار.
    وفقكم الله تعالى لما يحبه ويرضاه …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى