كُتاب الرأي

قلوب من السيليكون

قلوب من السيليكون

محمد الفريدي 

في زمن صارت فيه التقنيةُ أهمَّ وأذكى من كثير من البشر، أصبحنا نعيش مأساة جديدة عنوانها: نحن لم نَصنع التطبيقات، بل التطبيقاتُ هي التي صنعتنا. صرنا نتقن تقليدَ ما اخترعناه، حتى تحوّلت مشاعرُنا إلى برمجيات، وقلوبُنا إلى قطّع من السيليكون لا تنبضُ إلا بإشارة، ولا تضحكُ إلا بأوامر، ولا تحزنُ إلا بتوقيت، ولا تغضبُ إلا إذا اقتضت ضرورةُ “الخوارزميات” ذلك.

التكنولوجيا لم تعد وسيلة لتيسير حياتنا، بل أصبحت مرآة تُعرّي ما تبقّى من إنسانيتنا. كل تطبيق نحمله، وكل شاشة نحدّق فيها، يقتطع من أرواحنا جزءا صغيرا ويترك مكانه فراغا باردا. ومع كل نقرة أو “إعجاب”، نفقد شيئا من دفء قلوبنا، ونقترب خطوةً أخرى من أن نصبح مجرد نسخ بلا ملامح، بلا شعور، بلا وجدان.

لقد غزتنا الآلة، ليس من الخارج فقط، بل من الداخل أيضا. تسلّلت إلى وعينا، وأعادت تشكيلنا وفق منطقها الجامد. صارت أفكارنا مُرقَّمة، ومشاعرنا مُصمَّمة مسبقا، حتى أصبح “الطبيعي” فينا شيئا استثنائيا.

وصرنا، بلا وعي كامل، نعيش وفق برمجيات ليست من صنعنا. نختار ما تُريده لنا الشاشات، ونفكر بما تريده لنا الخوارزميات. حتى لحظات فرحنا وحزننا صارت محددة مسبقا، مثل رموز رقمية تُعرض علينا وتُحسب بعناية. لم نعد نحن من نقرر؛ بل نحن جزءٌ من نظام ذكي يبتلع مشاعرنا ويمحو فرديتنا شيئا فشيئا.

قبل عقود، كنا نخشى أن تحكمنا الروبوتات. أما اليوم، فلم يعُد هناك ما يدعو إلى هذا الخوف؛ فقد تحوّل البشر أنفسهم إلى روبوتات بشرية: تُطيع، وتستهلك، وتُصفّق، وتُردّد ما يُقال لها بلا تفكير. لم نعد بحاجة إلى آلات تُسيطر علينا، فقد نجح الإنسان في أن يبرمج نفسه بنفسه.

انظر حولك. العالم يشتعل بالحروب، الأطفال يُقتلون، والمدن تُحرق، والمشاهد المؤلمة تُعاد بثها كأنها إعلانات تجارية. تُقصف الحقيقة كما تُقصف البيوت، ويُسكت الصوت كما تُسكت مأذن المساجد.

بينما نحن ننام — بأعين نصف مغمضة — ونكتفي بالمرور على الشاشات، كأننا نتابع مسلسلا تلفزيونيا طويلا، ونغلق الأجهزة عند المشهد الأخير لنكمل حياتنا بسلام تام، وكأن شيئا لم يكن.

أي قسوة هذه التي صرنا نمارسها ببرود؟ أي انحدار يجعلنا أكثر لامبالاةً من آلة لا تعرف معنى الرحمة؟

الآلة، رغم برودها، لا تكذب، لا تسرق، لا تبرر القتل، ولا تلوّن الحقائق لتخدم مصالحها. أما نحن، فقد تفوقنا على كل برمجيات الخداع والنفاق والتجميل والتبرير. صار الصدق عيبا، والموقف جريمة، والرحمة ضعفا.

نحن كائنات تدّعي التفوق العقلي والأخلاقي، بينما آلاتنا — التي نظنها بلا روح — تُمارس منطقا أكثر عدلا منا.

الذكاء الاصطناعي لا يميز بين لون أو دين أو جنسية، ولا يعرف عنصريتنا، ولا يشاركنا غرورنا. وقد يكون أحيانا “أكثر إنسانية” من قاض يبيع حكمه، أو إعلامي يبيع كلمته، أو زعيم يبيع وطنه.

هل ندرك حجم المأساة الآن؟

نخاف أن تتمرّد الآلةُ علينا، بينما الحقيقة أنّنا نحن من تمرّدنا على إنسانيّتنا منذ زمن بعيد؛ فالآلةُ لم تتغيّر، بل نحن من فقدنا برمجتنا الأخلاقية، وخرجنا عن طوعِ الضمير.

لقد تحوَّل الإنسانُ إلى سلعة رخيصة في أسواقِ الرأسمالية المتوحّشة؛ يُقاسُ بقيمةِ إنتاجِه لا بكرامته، وتُختصرُ أحلامه في إعلان أو شعار تافه، ويُساقُ كمستهلك مُطيع، يُفكّرُ كما يُريد له التجّار أن يُفكّر، ويشعرُ بما تسمح له الشركات الكبرى أن يشعر. الآلةُ لا تُستهلك، بل نحنُ الذين استُهلكنا حتى النخاع.

لقد صارت قلوبُنا عبئا على كفاءتِنا، وصارت عاطفتُنا عائقا أمامَ منطقِنا، وأصبح ضميرُنا يُعطِّلُ ماكينةَ الربحِ والاقتصاد. ولهذا استُبدلت قلوبُنا البشريّةُ بقلوبٍ من سيليكون؛ أكثرُ صمتا، وأقلُّ وجعا، وأنسبُ للعصرِ الذي نعيشُ فيه.

الآلةُ — على جمودها — تُحاسَب إذا أخطأت، ويُصلَح خللُها فوريا. أمّا البشر، فلا يُحاسَبون حين يَكذبون، بل حين يقولون الحقيقة. يا لها من مفارقة موجعة: أن يُعاقَب الصادق، ويُكافأ الكذّاب. لقد أصبحت الإنسانيّة — تلك الكلمة الثقيلة — شعارا مستهلكا نرفعه في المؤتمرات، ونسحقه في واقعنا كلَّ يوم بالأقدام.

نُنشئ منظمات لحقوق الإنسان، ونُغلقُ أفواه البشر عن الكلام. نتحدّث عن العدالة، ونحن نحكمُ بهوانا، ونقدّسُ التكنولوجيا، ونَدفن بها قلوبنا، حتى صرنا آلات بلا إحساس تسيرُ على الأرض، ونسينا كيف يشعر الإنسان.

الآلة لا تبكي، نعم، لكنها أيضا لا تكره، ولا تحقد، ولا تنتقم. أما نحن، فقد صنعنا من الكراهية مذهبا، ومن غزو الآخرين شرفا، ومن قتل الضعفاء العزل بطولة. ومعظم الحروب والصراعات عبر التاريخ لم تنشأ عن عجزنا الفكري أو ضعف قدراتنا العقلية، بل عن تجاهلنا للقيم الأخلاقية وتجاوزنا لنداء الضمير.

لقد اخترعنا الذكاء الاصطناعي، لكننا نسينا أن نحدّث “برمجة ضميرنا”. انشغلنا بتطوير الآلة، وتركنا أنفسنا تتآكل في دوامة الطمع والغرور، ونبرمج كل شيء حولنا إلا أنفسنا. والآن، نصنع عالما متقنا للآلات، بينما نترك إنسانيتنا تتهاوى على قارعة الطريق.

نصنع آلات تفكر، ونكفّ عن التفكير. نُعلّمها المنطق، بينما نعيش نحن في فوضى التناقض والأكاذيب. نمنحها القدرة على التعلّم، ونغلق عقولنا أمام أبسط مبادئ التعليم. مشكلتنا ليست في الذكاء الاصطناعي، بل في الغباء الطبيعي الذي يستوطن عقولنا التي فقدت بوصلة الأخلاق.

الخطر ليس في التقنية، بل في الإنسان نفسه الذي يفتقد الضمير والوعي الأخلاقي، ويستغل التكنولوجيا لصالحه بشكل خاطئ، فيدمّر قيمه الإنسانية ويحوّل أدوات التقدم إلى وسائل للضرر والفوضى.

لا نحتاج إلى معالج أسرع، بل إلى قلب أبطأ، يتريّث قبل أن يحكم، ويتأمل قبل أن يقتل، ويشعر قبل أن يتكلم. لا نحتاج إلى ذاكرة أكبر، بل إلى ضمير أصدق. ولا نحتاج إلى مزيد من البيانات، بل إلى وعي يعيد ترتيب أولوياتنا كبشر، ثم كل شيء يأتي بعدنا.

فالتقدم الحقيقي ليس في حجم شاشاتنا ولا في سرعة إنترنتنا، بل في أن نحافظ على إنسانيتنا ألا تتحول إلى رقم من الأرقام، وليس في أن نخترع آلة تفكر، بل في أن ننشئ إنسانا يشعر بمن حوله، يحترم الحياة، ويصنع الخير والمعروف للآخرين قبل أن يسعى لمنفعته الشخصية.

والقوة الحقيقية لا تكمن في أدواتنا أو امتلاكنا التكنولوجيا، بل في قدرتنا على الحب والرحمة وإيقاظ الضمير. فعندما نفقد هذه القيم، نصبح أمواتا معنويا، ويصبح مجتمعنا على شفا الانهيار.

ربما حان الوقت لإعادة تعريف الذكاء. فالذكاء ليس في برمجة آلة تعرف الإجابة، بل في تربية إنسان يعرف متى يصمت، ومتى يصرخ، ومتى يقول “لا” في وجه كل هذه المظاهر الكاذبة، ويعيش بضمير.

إن “قلوب السيليكون” التي زرعناها في أجهزتنا، صارت تضخُّ برودها في شراييننا، وصرنا نبتسمُ لمن حولنا بلا صدق، ونتألمُ لوحدنا بلا صوت، ونعيشُ حياتنا بلا معنى، والكارثةُ أن أحدا هناك لم يعُد يلاحظنا.

سيأتي يوم — إن لم يكن قد جاء بالفعل — تصبح فيه الآلة مرآتنا الأكثر صدقا من الذين يعيشون حولنا، وتُظهر لنا ملامحنا المطموسة، وعيوننا الخالية من الشعور بالحياة، وضمائرنا المحفوظة في ملفات مؤقتة بانتظار إعادة تشغيلها. حينها، لن نخاف من أن تسيطر التكنولوجيا علينا، بل من أن ننظر إليها فنرى أنفسنا فيها بوضوح مؤلم.

قبل أن نصل إلى تلك اللحظة، علينا أن ننتزع قلوبنا من أيدي آلاتنا، وأن نعيد لها نبضها، وأن نغسلها من غبار حساباتنا الباردة، وأن نعيد أنفسنا إلى صدارتها الأولى، لا كأرقام في معادلة، بل كقيمة لا تُقدّر بثمن.

لقد تحوّلت مشاعرُنا إلى واجهاتٍ بصرية، وضميرُنا إلى تطبيق يمكن تعطيله أو تفعيله حسب المصلحة. صرنا جيلا يتحدّث عن الحبّ عبر رموز صفراء، ويواسي أهلَ الموتى برسالة جاهزة منسوخة مكرّرة، وأحيانا يُعزّي بملصق ضاحك.

جيلٌ يظنّ أنه يعيش، بينما هو في الحقيقة يُدارُ من شاشة لا تعرفُ اسمه. لقد صِرنا معرفات بأرقام، ومختصرين في إشعارات، ومختفين خلف ضوء أزرقَ لا يُضيءُ شيئا سوى وحدتِنا.

انظر إلى وجوهِ الناسِ في مدنِنا؛ كلُّها متعبةٌ رغم الزينةِ والمساحيق، تائهةٌ رغم النظامِ وخرائطِ «قوقل ماب»، متّصلةٌ بكلِّ شيء إلّا بذاتها. يمشون بسرعة كما لو أنّهم يهربون من شيء لا يرونه، من فراغ يسكنهم ويأكلهم من الداخل. تراهم يضحكون في الصور، لكن ابتساماتِهم تشبهُ ابتسامةَ الروبوتاتِ في الإعلانات؛ دقيقةٌ، محسوبةٌ، مبرمجةٌ لتقول: “كلُّ شيء بخير”، بينما لا شيء فيها بخير.

فقدنا القدرة على الصمت، لأن الصمت يفضحنا، وحين نصمت، يسمع ضجيجنا خوائنا الداخلي، فنهرب إلى هواتفنا لنسكت الفكرة قبل أن تولد. صرنا نخاف من الوحدة أكثر مما نخاف من الخطأ، ونخشى التأمل كما يخشى المجرم مواجهة نفسه.

لقد تآكلت فطرتنا، واستُبدلنا عقولنا بعقول مبرمجة على “المنفعة”. كل قراراتنا باتت تُقاس بمعادلات حسابية، لا بمعايير أخلاقية. حتى علاقاتنا أصبحت عقودا غير معلنة لتبادل المصالح: من يحبك، يفعل ذلك لأنك توفر له شيئا، لا لأنك أنت. ومن يكرهك، يكرهك لأنك تهدد مكاسبه، لا لأنك ظالم.

لقد سقطت قيمنا القديمة واحدة تلو الأخرى: الصدق استُبدل بالذكاء، والكرامة استُبدلت بالفرص، والرحمة استُبدلت بالمنفعة. ولم يبقَ في السوق إلا الضمير الذي يُباع بأغلى ثمن.

فمن يربحُ هذه المعركةَ، يربحُ إنسانيّتَه، ومن يخسرها، لن يحتاجَ إلى جنازة تُشيّعه، لأن جسدَه سيواصلُ الحركة، لكن قلبَه — للأسف — سيكونُ قلبا من السيليكون.

كاتب رأي

محمد الفريدي

رئيس التحرير

‫2 تعليقات

  1. ابداع متواصل ابا سلطان في جميع مقالاتك
    ومقالك هذا يزخر بالمشاعر والحقائق وعن التدبر والتحليق في اسرار المعرفه واسرار الوجود وبدء الخليقه
    عن احد اهم واعظم مخلوقات الله ( الانسان)
    ويعلم المسلم ان الهدف من خلق الله البشر هو عبادته ولو تامل الانسان النعم التي انعم الله بها علي الانسان وسائر مخلوقاته منها نعمه العقل والبصر والسنه والشم والذوق ونعمه الجهاز الهضمي والعصبي والدم والغدد والشرايين وكافه الجسم وخلاياه
    تبارك الله احسن الخالقين
    وخلق الله الدنيا لتكون مزرعه للاخره فكلا يحصد مازرعه وكذا تزكيه النفس وعماره الارض والاستخلاف فيها
    واظهار عظمه الله وقدرته بمخلوقاته لتكون دليلا علي حكمته وعظمته
    ربي ماخلقت هذا باطلا وان البشريه مهما عملت علي مختلف عصورها تظل محدوده وعاجزه لاتقارن بعلم الله الواسع الذي لايحبذ به احد الا بما شاء كما قال عزوجل ( وما اوتيتم من العلم الا قليلا ) مماقاد بعض العلماء والمفكرين الي الاسلام بعد معرفه بعض حقائق مخلوقات الله ومعجزاته
    وقد حثنا رسولنا الكريم علي طلب العلم في حديثه ( من سلك طريقا يلتمس به علما سهل الله له طريقا الي الجنه
    واختم بابيات للشاعر معروف الرصافي
    فكل بلاد جادها العلم ازهرت
    رباها وصارت تنبت العز لا العشباء
    وليس الغني الا غني العلم انه
    لنور الغني يجلو ظلام افتقاره
    ولاتحسبن العلم في الناس منجيا
    اذا نكبت اخلاقهم عن مناره
    وكالعلم الا نور يجلو دجي العمي
    لكن تزيغ العين عند انكسارها
    ولانسان السليكون يذكرني باغنيه مصريه ليلي نظمي
    ادلع ياعريس وعروستك نايلون
    وهي تعبير علمي عن المزاح والمداعبة والفرح بما يملكه الانسان
    دمت مبدعا ابا سلطانك 💐

    1. أبا وعد، شكرا من القلب على هذا المرور الثري الذي يفيض علما وتأملا وجمالا.
      تعليقك بحد ذاته قطعة أدبية وعقدية وفكرية تستحق الوقوف عندها كثيرا، فقد أضفت على المقال عمقا جديدا بربطك بين التأمل في الخلق، ومقاصد الوجود، وشرف العقل والعلم كأعظم ما مُنح الإنسان من نعم.

      صدقت — ما خلق الله هذا باطلا سبحانه، وما العلم إلا طريق لمعرفة عظمة الخالق وحكمته.
      وكم أسعدني استحضارك لأبيات معروف الرصافي، فهي تلخّص أن العلم بلا خُلُق لا ينير، وأن الحضارة لا تزدهر إلا حين يتكامل النوران: علمٌ يهدي، وأخلاقٌ تزكّي.

      أما إشارتك إلى أغنية ليلى نظمي، مغنية جيل الطيبين، فكانت لمسة خفيفة الظل وسط هذا العمق، وكأنك أردت أن تقول: حتى في “عروسة النايلون” شيء من رمزية “الإنسان السيليكوني” 😄.
      ضحكت كثيرا، أضحك الله سنّك، وقلت في نفسي: صدق أبو وعد، فحتى الفرح صار اليوم “مغلفا بالبلاستيك”!

      دمتَ كما عهدتك يا أبا وعد، قارئا نبيلا وصوتا يوقظ المعنى.
      تحياتي وتقديري،
      أبو سلطان.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى