مَاذَا لَوْ رَحَلَ ؟

في إِحدى هجر البادية، التي تقع بالقربِ مِن المدينةِ، كان يعيش رجلٌ فقيرُ الحال، أنجب فِي خريف عمره ابنة، وحين بَلغت مِن العمر سبعة عشر عاما؛ تقدم له شقيقه يطلبها زوجة لابنه الوحيد، مُتوسلا إليه، قائلا إنَّهما أولادنا، فلنزوجهما لبعض، فأنت أرمل، وقد أنهكتك السنون، وأنا زوجتي مريضة، وعلى أَعتاب الهرم! وليس لدينا عائل بعد الله إلا هما؛ لكن والدها رفض، بحجة أنها ما تزال صغيرة على الزواج، وأنها تقوم على رعايته، بعد أن تُوفِيَتْ والدتها منذُ ثلاث سنوات، حاول عمها إقْناع شقيقه بأنَّ زواجها من ابنه هو الحل لضمان رعايتهما، فهو والدُ الفتاة وعم الفتى، ولكنه رفض!
مضت السنون، إثر السنين، ورحل العم من الهجرة، واستقر بمدينة بعيدة، وانقطعت الأخبار بين الأخوين؛ فقد نشأت بينهمَا جفوةٌ أدتْ إلى قطيعة، تُوفِيَتْ بعدها زوجته، ليصبح أرملًا ليس له عائل إلَّا ابنه وزوجته، التي لم تكن تحسن معاملته، كان يتجرع الألم، فهو لا يريد أنْ يغضبَ ابنه. أما شقيقه فقد زوّج ابنته بشابٍ من طرف قبيلته، واشترط أنْ يكون زواج (مسدح)؛ أي أن تبقى الزوجةُ في بيت والدها، وافق الزوج على مضض، وما هي إلا قرابة السنة، استيقظت الفتاة لتجد والدها قد مات، حزنت عليه كثيرا، وكانت مع زوجها، تبحث عن علاج يساعدها على الإنجاب، لكنها يأستْ بعد أن أكد لها الأطباء عقمها، وبعد عدة سنوات ترملت، وأصبحت وحيدة، بعد أن تقدم بها العمر.
ترك زوجها لها مبلغًا من المال، وقطعة أرض زراعية، وعددا من، وعاشت على دخل أرضها من محصولها الذي لا يكاد يفي براتب العامل! كانت كلمات عمها وتوسلاته لوالدها تتردد في وجدانها، لقد كان محقًا حين طلبها لابنه الوحيد، كلما جلست في شرفة منزلها، مرَّ شريطُ الذكريات أمامها، وتذكرت والدها الذي رحل، وزوجها الذي مات دون أَنْ يُرْزَقَا بولد يكون عونا لها وسندا! لم يعد لها أمل في الحياة إلا أن تعيش ما بقي من عمرها مع عمها وابن عمها؛ فهما آخر أهلها.
في شرفة منزلها المتواضع، تجلس على كرسي، وأمامها طاولة قديمة، قد زينتها بورق السولفان، وعليها إبريق معدن من أقدم آنيتها المنزلية! به شاي، وقد وضعت به قليل من الحبق، كانت تحتسي الشاي في مساءٍ ماطر، وبينما تَشرب الشاي أطلقت لفكرها العنان، واستسلمت لموجة قوية من الذكريات، عادت بها إلى سنوات خلت من عمرها، وعصفت بها عدة أسئلة متلاحقة.
ترى كيف حال عمها وابنه بعد وفاة زوجته؟ كيف وضعه الصحي؟ يا إلهي هذه عشرون سنة بعد وفاة زوجته! إنها كفيلة بهد قواه! هل يذكر من بقي من أقاربه؟ ليت شعري لو أزوره هل سيعرفني؟ رباااااااااه إني مشفقة عليه، انقطعت أخباره، بعد أن أخذه ابنه الأكبر إلى مدينة بعيدة! يا إلهي إن كان يقيم في دار العجزة!!! لا لا مستحيل إذ كيف يكون ذلك، وهو من حملة لواء البر بالوالدين!
فجأة يرن هاتفها الجوال، فينتشلها من عمق الموجة، أنهت المكالمة التي لم تكن سوى من جارتها التي تسكن في طرف الحي، كانت تطمئن عليها. قررت الاتصال بابنه الذي أخبرها بأن والده قد تعرض لجلطة ألزمته الفراش ومنحته بطاقة عضوية دائمة بصفته مُقْعَدًا، ضمن قائمة المقعدين! هزت هذه المكالمة كيانها، وكادت أن تقضي عليها! يا إلهي لم يبق لي من أقاربي إلا هو!! استمرت من فترة لفترة تتصل بابنه للاطمئنان على والده، كانت كلما جلست في الشرفة تردد:
“ذَهَبَ الَّذينَ يُعاشُ في أَكنافِهِم *** وَبَقيتُ في خَلفٍ كَجِلدِ الأَجرَبِ”
تذكرت كيف كان يشفق عليها؟ عندما فقدت والدها في سن مبكرة، عصفت بها موجة الأسئلة مرة أخرى. كيف وضعه بعد الجلطة؟ هل فقد أهليته الشرعية؟ كيف لي أن أزوره؟ وهل بقي في العمر بقية ترتمي في أحضان عمها؟ وهل يسعفها الحظ لترتبط بابن عمها! لتحتمي به بعد هذه السنين ولتخدم عمها ما بقي من العمر.
تأثرت بهذه القصة، وأحدثت في حياتي نقطةَ تحولٍ غيرت بعض المفاهيم عن الزواج؛ ليس صحيحًا على الإطلاق أنَّ زواج الأقارب يسبب مشاكل تهدد كيان النسق العائلي، في مثل ظروف هذه القصة كان الزواج ضرورة وصلة رحم، ورحمة تأتي بالمودة في إطار بر الوالدين. الزواج بناء أسرة وتكوين أسرة في نسق رابطة اللحم والدم أولى من بنائها في نسق أبعد. (الأقربون أولى بالمعروف) ، وقديما قيل في الأمثال “رقعة الثوب لا تكون إلا مِنه”. وقد قال الأصمعي: بنات العم أصبر، والغرائب أنجب. ويمكن أن ننتقل من أمر الزواج إلى ما هو أعم وأشمل في الحياة جميعها، ففي ظروف الحياة ما قد يناسب أحدًا ربما لا يناسب آخر، فلا توجد قاعدة ثابتة ما دام الأمر مشروعًا ومعروفًا.
سعود شباب العتيبي
كاتب رأي
قصة جميله مشوقه مختصره لايتخللها ملل