كُتاب الرأي

من شوائب النفس إلى صفاء الذات

 من شوائب النفس إلى صفاء الذات

باسم سلامه القليطي 

‏حين يفكر الإنسان في تطوير نفسه أو النهوض بحياته، أول ما يتبادر إلى ذهنه هو إضافة الجديد: مهارات، أفكار، تجارب. لكن الحقيقة التي يغفل عنها كثيرون أن الخطوة الأولى ليست الإضافة، بل التنظيف. فكيف تشيّد بناءً راسخاً على أرض مليئة بالحجارة والركام؟ لا بد من إزالة الأوساخ أولا، وتطهير الداخل من كل ما يعيق النمو.
الأفكار المظلمة كالصدأ الذي ينهش في الحديد ببطء. الصراع المستمر مع كل شيء يستهلك الطاقة، والتذمّر لا يترك في القلب مساحة للرضا، والكره والحسد يجعلان صاحبهما سجينا لعالم الآخرين بدل أن يكون سيدا لعالمه الخاص. أما اللوم فيحبس الإنسان في الماضي، والتقليد الأعمى يسرق منه فرصته في أن يكوّن ذاته. هذه كلها شوائب داخلية، إذا لم تُنزع فلن يثبت أي بناء مهما كان متينا.
قد يظن البعض أن التنظيف مسألة بسيطة: “سأترك هذه الأفكار، وأبدأ من جديد”. لكن الحقيقة أنها عملية شاقة لأنها تتطلب مواجهة النفس بصدق. أن تعترف بأنك تحمل في داخلك حسدا أو كرها أو تذمرا، هذا وحده يحتاج شجاعة. ثم تأتي المرحلة الأصعب: أن تختار التخلي عنها، وتقرر أن لا تعيش حياتك مرتهنا لها. التنظيف ليس قرارا عابرا، بل ممارسة يومية، ومقاومة مستمرة.
حين يطهّر الإنسان داخله من تلك الأثقال، يشعر فجأة بخفة لم يكن يتخيلها. القلب الفارغ من الكراهية يجد مكانا للحب، والنفس الخالية من التذمر تتذوق طعم الرضا، والعقل الذي تحرر من اللوم يستعيد قدرته على التخطيط والتقدم. الأرض التي كانت مليئة بالأشواك تصبح جاهزة لتستقبل بذورا جديدة، تنبت منها قيم التعاون، والعطاء، والتسامح، والاستقلالية. وهذا هو جوهر البناء الحقيقي للذات.
كثير من الناس يظنون أن بناء الذات مرهون بالدورات التدريبية، أو الكتب، أو الإنجازات المادية. لكن التجربة تقول إن أعظم إنجاز يبدأ حين يصبح الداخل متماسكا. لا ينفع أن ترفع جدارا شاهقا على أساس متشقق. ولذلك فالتنظيف ليس ترفا نفسيا، بل هو الركيزة التي يقوم عليها كل شيء آخر. فإذا كان الداخل قويا، صار الخارج انعكاسا لذلك، بلا تصنّع ولا تكلّف.
وحين يكتمل هذا المسار، ويجد الإنسان نفسه قد تحرر من شوائب الأمس، يبدأ في التذوق الحقيقي لنعمة الصفاء. صفاءٌ يقرّبك من الله، ويجعلك أقرب للناس، ويحررك من قيود المقارنات والضغائن. عندها يصبح التعاون خيارا طبيعيا، والعطاء عادة، والتسامح راحة، والاستقلالية قوة. تلك هي أول خطوات بناء الذات: أن تنظف قلبك، وتُهيّئ أرضك، لتقوم عليها عمارةٌ راسخة، لا تهزّها الرياح، ولا تُسقطها العواصف.

كاتب رأي

باسم القليطي

كاتب رأي

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى