من السوط إلى التصفيق

محمد الفريدي
من السوط إلى التصفيق
لسنا بحاجة إلى معسكرات احتلال، ولا إلى دبابات أجنبية تملأ شوارعنا، فعقولنا إذا احتُلّت، سقط كل شيء بعدها بسلاسة.
وهذا بالضبط ما جرى لنا في الوطن العربي: تحررت أراضينا من الاستعمار، لكن فكرنا العربي بقي بيد المحتل.
والأسوأ من ذلك أننا لم نعد ننتبه إلى أن المستعمر لم يعد خارج حدودنا بعد قرن من الزمن، بل أصبح يسكن في رؤوسنا، ويوجه قراراتنا، ويصوغ أحلامنا، ويرتدي عبوديتنا قناع الحرية والتميز.
فأخطر استعمار يمكن أن نراه، ليس من يغتصب خيراتنا، بل من يجعلنا نراه قدوة لنا، ويعيد تشكيلنا على صورته، ثم يتركنا نكرّس عبوديتنا بأنفسنا، ونحن نحسب أننا في طريق الرقي والتقدم؛ فنستيقظ بعدها لنجد أننا فقدنا ذواتنا، ولم نستقل بفكرنا، بل استبدلنا سلاسل الحديد بسلاسل الوهم والانبهار والضياع.
وهنا أتذكّر فرانز فانون، لا كفيلسوف غربي، بل كمن فضح المسكوت عنه، والذي قال:
“الضحية، حين لا تقاوم، تبدأ بتقليد الجلاد؛ تقلّده في لغته، في نظرته إلى نفسه، وفي احتقاره لثقافته ”.
ويتحول القهر إلى عادة، والاستسلام إلى ثقافة تُروّج لذاتها، وتصبح الحرية مجرد سراب يركضون خلفه بلا أمل.
والمستعمر الحقيقي عند المستعمرين أنفسهم هو من يغرس فينا شعورا عميقا بأننا لا نستحق أن نكون على ما نحن عليه، وحين نؤمن بذلك، نصبح أسرى قبول فكرة فقدان هويتنا، ونحول أحلامنا إلى قيود لا تُرى، تسجننا في قفص من الشكّ والانهزام.
ويبقى طريق عودتنا الحقيقية مرهونا بإدراكنا لقيمتنا الحقيقية، وبإصرارنا على استعادة هويتنا المطموسة رغم كل محاولات المحو والتشويه، إذا رفضنا أن نكون تابعين، واخترنا أن نكون صُنّاع مصيرنا بوعي وثبات.
واليوم، وبعد أكثر من ستين عاما على رحيل آخر جندي مستعمر من عالمنا العربي، نكتشف أن جنود الاستعمار خرجوا من بلادنا، لكن أفكارهم لا تزال باقية، وأن الجرح الذي خلّفوه لم يُشفَ، بل تغيّر موضعه، وصار في العقل، وفي اللغة، وفي الطريقة التي نرى بها أنفسنا.
نرتدي “التمدّن” كما نرتدي بدلة ضيقة لا تناسبنا، لكنها تُعجب المصمّم الأوروبي الذي صمّمها لنا.
نختنق بداخلها، وندّعي الأناقة، ونمشي بها بثقة مصطنعة، فقط لأننا نريد من الغرب أن يصفّق لنا.
نُحدث مناهجنا التعليمية، ونُطلق عليها “تطويرا”، ونعيد فيها ترجمة أفكار غيرنا حرفا بحرف، حتى أصبحنا سجناء فكرٍ ليس لنا ولم نبدعه، وكرّسنا عبوديتنا بأيدينا تحت غطاء التطور.
فأنتجنا جيلا يجيد التبعية، ويتقن الإعجاب بغيره، ويعجز عن أن يبتكر شيئا يُشبهه أو يُعبّر عنه، لأنهم ببساطة ربّوا عقولنا على الحفظ لا على التفكير السليم، وعلى الامتثال لا على الإبداع، وعلى نقل الإجابات من بعضنا البعض بدلا من تطوير قدراتنا، وشيّدنا الأبراج، ونحن نظن أننا نبني الإنسان، بينما الإنسان يُطحن يوميا بين تراث جامد وحداثة مزيفة.
فقد كشف إدوارد سعيد أن الاستشراق لم يكن مجرد نظرة دونية من الغرب إلى الشرق، بل كان مشروعا ممنهجا لتصوير الشرقي ككائن فوضوي وخرافي، عاجز عن إدارة نفسه وفهم العالم المتقدم من حوله.
وتمرير هذه الصورة النمطية لم يأتِ فقط في الكتب، بل في السينما، وفي الوسط الأكاديمي، وفي طريقة بعضنا في جلد أنفسنا؛ فصرنا نشكك في قيمنا وهويتنا، وننظر إلى أنفسنا بعين الاحتقار والاضطراب والدونية.
أصبحنا نرى أنفسنا بعيون غيرنا، ونتساءل بأسى:
هل نحن فعلا عقلانيون بما يكفي؟ هل نحن حداثيون كما يجب؟ هل نعرف من نحن أصلا بعيدا عن نظرتهم إلينا؟
هل نملك الجرأة لمواجهة أفكارنا الراسخة التي رسّخها الاستعمار فينا وتحدّيها؟ وهل نحن مستعدون لتحرير عقولنا من أسر هذه الأفكار لنستعيد قوتنا الحقيقية؟
هل نثق بأنفسنا، أم ما زلنا بحاجة إلى تصديق الآخرين لنشعر بقيمتنا؟
المثقف الواحد منا، للأسف، يعيش اليوم عزلة مزدوجة:
فلا هو قادر على التنفس داخل تراثه المكدّس وبيئته الثقافية والاجتماعية المنفّرة، ولا هو مُرحّب به بشكل كامل في نادي المستعمرين ومنظومتهم الفكرية.
مطلوب منا أن نفكر “بحرية”، لكن ضمن الحدود المرسومة لنا مسبقا فقط.
أن نبدع، بشرط ألا نزعج أحدا من حولنا، أو نتجاوز الخطوط المسموح لنا بها.
أن نتحدث، بشرط ألا نقترب من المسلّمات الاستعمارية والثوابت الغربية الراسخة.
أن نكون “ناقلين تابعين”، لا “مفكرين مستقلين” ولا مبتكرين، ونقنع أنفسنا بأننا أحرار، بينما نحن أسرى في أقفاص المستعمرين، الخالية من القدرة والسيادة؛ ونعيش في وهم الحرية، فيما تُشيَّد من حولنا أسوار الرقابة الفكرية، التي تُكبّل إرادتنا وتُقيّد مستقبل أوطاننا وأمتنا العربية.
حتى العبث الذي تحدث عنه الأديب الفرنسي ألبير كامو، وصرخ في وجهه مرارا وتكرارا، أصبح عندنا نظاما عالميا مقدسا لا يُمس، ونتعايش معه يوميا، ونزيّنه بالشعارات، ونغضّ الطرف عنه، ونتناسى أن الصمت أمام هذا العبث ليس حيادا، بل مشاركة في استمراره، وخيانة لكل من حاول أن يبني لنا عالما مختلفا.
إن الحرية الحقيقية لا تبدأ من تغيير الأنظمة، بل من تغيير مفاهيمنا، وأفكارنا، وقناعاتنا؛ فالعقول المستعبدة لا تصنع نهضة، ولا استقرارا أبدا، بل تعيد إنتاج الطغاة في كل مرة، وبشكل مختلف، في كل مرحلة.
علينا أن نخرج من أسر قوالب التفكير الجاهزة، ونعيد بناء عقولنا بجرأة الإبداع وصدق البحث عن الحقيقة، لنكون صُنّاعا لمستقبلنا، لا مجرد آلات لإعادة إنتاج أفكار الآخرين، وروادا يخلقون أفكارا جديدة، تنبض بالحياة والإنجاز والإلهام.
أن نتوقف عن لعب أدوار لم نكتبها، ولا تعبّر عنا، ونتحرر من قيودها لنعيش حقيقتنا كما هي، بكل صدق ووضوح.
أن نكفّ عن تكرار جُمَل لا تمتّ إلى واقعنا بصلة، ونبدأ في صياغة كلمات تعبّر فعلا عن تجاربنا وأحلامنا الحقيقية.
أن نعيد بناء تصوراتنا، لا على أنقاض ماضينا، ولا تحت سقف غيرنا، بل من نقطة الحقيقة التي نؤمن بها ونتشبث بها لنبني مستقبلنا بصدق وثبات.
استعدنا أراضينا العربية من الاستعمار، نعم، لكننا لم نستعد الإنسان.
لم نستعد عقله الذي سُرق، ولا روحه التي قُمعت، ولا لغته التي زُرع فيها الخوف والتردد.
تحررت جغرافيتنا، لكن تاريخنا بقي حبيسا للروايات المزيفة، وهويتنا العربية الواحدة ما تزال ممزقة بين ماض لا يُقرأ ومستقبل لا يُكتب.
صنعنا أعلاما وأناشيد وحدودا، لكننا لم نُحيِ ضميرنا، ولا رممنا داخلنا الذي هشّمه الاستعمار وتركه لأدوات الاستغلال الجائر تُكمل المهمة.
استعدنا السيادة الشكلية، لكن من يسيّرنا اليوم فعليا هو الفكر المسلوب الإرادة، واللغة المستعارة، والمفاهيم التي ورثناها عن المستعمر؛ فظلت إرادتنا مقيدة بأغلال لا تُرى، وأحلامنا محاصرة داخل حدود رُسمت لنا.
فهل نجرؤ على أن نسأل أنفسنا:
هل نريد الخلاص من التبعية فعلا، أم أننا فقط نرغب في نسخة أجمل من عبوديتنا؟
نعم، نحتاج إلى طرح الأسئلة القاسية، لا من باب التمرّد على المألوف، بل من باب الخلاص والنجاة، ومن أجل أن نُعيد الإمساك ببوصلتنا، ونحرّر ذواتنا من أوهام الحرية وقيود التبعية، ونستعيد هويتنا الفكرية وأصالتنا التي صادرَتها الخطابات المعلّبة والأوهام المستوردة، قبل أن نستيقظ ذات يوم على وطنٍ يشبهنا في الصورة، ويعادينا في كل شيء.
فما نعيشه اليوم ليس هدوءا، بل تخديرا، يسرق منا القدرة على التمييز بين الحقيقة والوهم، ويُبقي أذهاننا محبوسة في قفص الصمت والقبول.
ولأن أجيالنا القادمة لا تنتظر منا الإجابات المحفوظة، بل تنتظر من يُغيّر هذه التبعية الفكرية التي نعيشها دون أن نشعر، ويكسر قيودها الخفية التي تحيط بنا، ويفتح لها أبواب الفهم والحرية الحقيقية، فهي تنتظر من يوقظ فيها الإنسان المسؤول، لا التابع، ويعيد إليها الثقة بأن مستقبلها يُصنع، لا يُستنسخ.
فلا مستقبل لأمة لا تعيش تمييزها ونضجها الفكري، ولا وطن يُبنى على هشاشة الفكر والقلوب المترددة.
كم مرة نردد مفردات لا نفهمها؟
وكم مرة نحتفل بخطط “التنمية والنهضة” ونحن نقتل هويتنا؟
كم مرة نقيس أنفسنا بمقاييس غيرنا، وننسى أن لنا جرحا مختلفا، وذاكرة مختلفة، ووجعا لا تترجمه أبدا كتبهم، ولا تُنصفه نظرياتهم، ولا تلتفت إليه مؤسساتهم، ولا تحمله خرائطهم؟
إن أردنا الحرية الحقيقية، فعلينا أن نعود إلى جذورنا؛ فالأمم التي تنبت بلا جذور تقتلعها أول ريح عابرة، أو تموت واقفة كأشجار زُرعت في غير تربتها: لا ظلّ لها، ولا ثمرة.
علينا أن نُربّي أجيالا لا تخجل من لغتها، ولا تتقمّص لهجاتٍ ولغاتٍ أخرى لترفع من قيمتها.
علينا أن نُعيد الاعتبار لهويتنا، التي يُراد لنا أن نتنازل عنها مقابل السماح لنا بـ”الاندماج” معهم، وكأن قبولنا لا يتم إلا بثمن يمسّ جوهرنا، وهويتنا، وإنسانيتنا.
حريتنا الفكرية ليست حدثا سياسيا ينتهي بطلب من الأمم المتحدة، بل هي معركة يومية مع التسلط الفكري الناعم والهيمنة الثقافية المتخفية، التي تدخل علينا من شاشاتنا، ومن تطبيقاتنا، ومن مؤتمراتنا، ومن كتبهم المترجمة.
فلنُشكّل إرادتنا من داخل جراحنا بأنفسنا، لا من فوق منصاتهم المهترئة، ولنكتب فلسفتنا من أعماقنا، لا من هوامشهم وزواياهم الضيقة.
و لنصنع حداثتنا بأيدينا، ونرسم معاييرنا، ونمتلك لغتنا كأداة للتعبير الحقيقي، الذي يعكس أصالتنا ويجسد هويتنا، ويُعبّر عن تطلعاتنا دون تشويه أو تقليد.
ولنكفّ عن تبنّي نتاج عقولهم الملوّثة، ونستعيد قوتنا الفكرية التي سُلبت منا طويلا، ونبني فكرنا الحرّ على أسسٍ صلبة من الحقيقة والإبداع، و لنحجز مكاننا بين الأمم بهويتنا الأصيلة، لا كنسخ تائهة تتقفى آثارهم بلا رؤية، ولا هدف، ولا بوصلة، ولا حتى هوية.
عندها فقط، يمكننا أن نقول إننا قد تحررنا من ثقافتهم، وكسرنا الدائرة التي ظلّت، على مرّ السنين، تأخذنا من السوط إلى التصفيق … رغما عنّا.
لنصنع حداثتنا بأيدينا، ونرسم معاييرنا، ونمتلك لغتنا كأداة للتعبير الحقيقي، الذي يعكس أصالتنا ويجسد هويتنا، ويُعبّر عن تطلعاتنا دون تشويه أو تقليد…
سلمت يدك… فقد قلتَ ما ينبغي أن يُقال، وزرعتَ في الحروف مبدأً يليق بالأحرار..👍🏻
أخي الدكتور دخيل الله، ما أجمل أن تجد من يلتقط المعنى كما أردته، ويمنح الكلمة حياة تُشبه مقصدها.
حديثك شهادة أعتز بها، لأنها جاءت من قلم صادق، وفكر أصيل لا يُجامل على حساب الهوية، ولا يُساوم على جوهر الحداثة.
نعم، لنصنع حداثتنا بأنفسنا، ونرسم ملامحها بعقولنا وثقافتنا، لا بنسخ مشوّهة أو قوالب مستوردة.
شكرا لك … فقد منحتني بهذا الرد دفعة جديدة للاستمرار، ومزيدا من الثقة بأننا نسير في الاتجاه الصحيح.
أخوكم
أبو سلطان
👍👍👍👍👍👍👍
شكرا أستاذة ابتسام، بارك الله فيك.
أخوكم
أبو سلطان