كُتاب الرأي

معراج العبودية

 

معراج العبودية
في ليلة السّموّ والارتقاء، وهيبة الجلال واللّقاء، عُرج بسيّد البشريّة محمّد صلّى الله عليه وسلم حتى بلغ منزلةً لا تخطر على قلب بشر، ومقامًا ما زاغ البصر فيه وما طغى، إنّها منزلة العبوديّة لله، حين نال أعلى تتويج من ربّ العزّة (سبحان الذي أسرى بعبده)، إنّها خضوع القلب بين يديّ مولاه وإظهار الذّلّ والفاقة في محاريب الأعمار وميادين الحياة.
العبوديّة لله هي الغاية الأسمى من الخلق والإيجاد والإعمار، هي لحظة الاعتراف الكاملة في المَنشط والمكره، والمحابّ والابتلاء، بأن الأمر كلّه لله، والكون لله، والتّصرف والمشيئة لله، هي صوت القلب بيقين: (قل إن صلاتي ونسكي ومحياي ومماتي لله ربّ العالمين).
يطرق السّالكون كلّ أبواب العزّة ويبحثون عن أشرف المعالي حتى ينالوها، ولو أنّهم أراحوا قلوبهم؛ فلن يجدوا أبلغ من مقام العبوديّة والاستسلام لله سبحانه، والخضوع بين يديه.
وكلّما تَحقّق العبد بكمال الخضوع والتذلّل والافتقار إلى الله ؛ ارتقى في مدارج العزّة والتّمكين، ولاذَ بأستار الشّرف والمنعة واليقين، ومن كان في كنف مولاه فما الذي يضرُّ نقاء عمره! وأيّ وعثاء تَطال بيداء روحه! إنَه القلب إذا تعلَق بسيّده ومُنعمه وبارئه، فإنّ كلّ اللّغات عنده تتّحول إلى أبجديّة واحدة،هي لغة الأنبياء: (إيّاك نعبد ، وإيّاك نستعين).
لقد هتف بها أبو الأنبياء إبراهيم عليه السّلام في مراجل النّيران، ولاذ بها قلب يوسف عليه السّلام في قصر العزيز، وأيقن بأسرارها يونس عليه السّلام في لجّة البحر وظلمته، ونجا بها إسماعيل عليه السّلام تحت وطأة الذّبح، وارتقى بها سيّد الأنبياء محمّد صلّى اللّه عليه وسلم حتى بلغ سدرة المنتهى، فكانت تاج عزٍّ وإكليل فخارٍ لكلّ عبدٍ سار خَطوَ نبيّه، واحتذى نهجه، ولَزِم غرزه.
هكذا هو عمر المؤمن حين يبلغ مقام العبوديّة لله، تتفتّق في عروقه أعمق المفاهيم، ويترتّب لديه جدول الأولويات؛ فإذا صلّى وصام، وأنفق وقام؛ فإنّما هو لله، وإذا داهمته الخطوب، وأزّته لَأواء المحن، وكبّلته يد الرّزايا؛ فإنما هو لله، نبضه ورجاؤه وأنفاس عمره.
تطيب نفسه حين يرضى الله عنه ويحبّه، فإذا أحبّه كان سمعه وبصره وبطشه ثم جنّته.
إنّه القلب؛ إذا سجد لبارئه وخالقه، حلّقَ نحو معراج الرّضا، وتحرّر من رسف الهوى وصوارفه، وثبت أمام أصنام النفس وأغلالها، فعاش حقيقة السّعادة في الدّنيا، كما يقول ابن تيميّة رحمه الله: (من أراد السّعادة الأبديّة فليلزم عتبة العبوديّة)، وعرف وتيقّن أنّ الغاية هي العبوديّة لله، والمفاز هو لذّة النّظر إلى وجهه الكريم.
هكذا تكون أعمار النّاجحين، إذا حلّت في القلب سوانح الطّمأنينة، واستقرّت في الرّوح معاني اليقين والسّكينة، لاذَ العبد بالله حبًّا وانقيادًا وأمانًا، ولهج لسان الحال لديه:

ومما زادني شرفًا
وتيهًا
وكدتُ بأخمصي أطأ
الثريا
دخولي تحت قولك
ياعبادي
وأن صيّرت أحمد لي
نبيًّا.

الكاتبة / رغد منير صباهي

 

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى