كُتاب الرأي

مسلسل “التاج” وصورة القيادة في عصر التحولات

المسلسلات التلفزيونية التاريخية مثل المسلسل البريطاني “التاج” الذي يقدم للمشاهدين على منصة نيتفليكس لمحات فنية تحاكي الواقع المعاش، وتجسد شخصياتها من صفحات التاريخ، وتستوحي أحداثها من التقلبات السياسية والاجتماعية التي شكلت عالمنا هذا بهذا بالشكل الذي نراه عليه اليوم، يجعلها من ضمن المسلسلات الخالدة والأكثر مشاهدة ومبيعا.

إن ما يجعل هذه الأعمال ساحرة وخالدة ليس فقط التصوير الدقيق للأحداث، بل الطريقة التي تظهر بها المشاهد التي تتقاطع فيها الحياة الشخصية للقادة مع مسؤولياتهم الوطنية.

لقطة مثلا من هذا المسلسل تظهر الملكة إليزابيث الثانية في صباح أحد أيام عام 1964 وهي تتناول فطورها مع زوجها الأمير فيليب الذي يتابع الانتخابات البرلمانية البريطانية على التلفاز باهتمام بالغ، وتظهر هنا الدراما تباين الاهتمامات، وتجسد المواقف الحياتية التي قد تبدو بسيطة، ولكنها تحمل في طياتها تعقيدات الدور السياسي والشخصي، فيثير الأمير فيليب قضية حساسة وهو يلمح إلى “هارولد ويلسون، رئيس الوزراء البريطاني السابق” ذي الميول الاشتراكية قد يكون عميلا للاستخبارات السوفيتية، وهذا الاتهام يبرز الشكوك السياسية التي كانت تحوم حوله في تلك الفترة، ويحاكي الشعور العام في الغرب تجاه التوجهات الاشتراكية، ولكن الملكة، بتعقلها المعهود، تشكك في صحة ما يقوله الأمير فيليب، وهنا تظهر الدراما كيف كانت تعالج الملكة إليزابيت المعلومات بحذر، معتبرة كل شائعة يجب أن تفحص قبل أن تقبل.

هذا الموقف يلمع ويبرز نهج القيادة البريطانية والدور الذي كانت تقوم به الملكة، وصناع المسلسل البريطاني هذا يوهمون المشاهدين بالتزامهم والتزام قيادتهم السياسية بالحيادية والدقة والعدل، وهي دولة ظالمة قاسية لا تعرف معنى الحيادية والرحمة، احتلت في القرن الماضي العديد من الدول العربية واخضعتها تحت سلطانها بالحديد والنار، ومنحت فلسطين بلدا قوميا لليهود، وقاتلت بجوارهم العرب حتى استتب لهم الأمر لأنها كانت فقط دولة استعمارية وإمبراطورية عظمى لا تغيب عنها الشمس.

ثم تتابع القصة، وتظهر الملكة وهي تدخل على السير ونستون تشرشل، الذي يقبع في سريره متأثرا بجلطة ثالثة، ويلتقي الزعيمين في هذا المشهد، ويجسدان معا التحول الجيلي في السياسة البريطانية، وتظهر الملكة احتراما للقائد العظيم تشرشل، وتشرشل يعبر عن قلقه تجاه مستقبل بلاده، ويعكسان في الوقت نفسه التحديات التي تواجه الأمم في لحظات الانتقال السياسي.

تظهر الملكة اهتماما بوضع تشرشل الصحي، ويبرز المخرج للمشاهد الإنسانية التي تكمن وراء الواجهة الرسمية للقيادة البريطانية، ويظهر تشرشل وهو يعاني من المرض اهتمام بشؤون بلاده، ويشير بيده إلى التلفزيون وهو يعرب عن مخاوفه من عودة الاشتراكية إذا فاز هارولد ويلسون في الانتخابات البرلمانية البريطانية، والملكة تقول له:
_لا أعتقد أنه يستطيع أن يحول بريطانيا العظمى لدولة اشتراكية.
وهنا يرد تشرشل عليها:
_ويلسون أول سياسي بريطاني يتخطى الستار الحديدي، أتذكر أني استحسنت فكرة عدم مفارقة مراقبة هذا الشخص وغيره، لرؤية صورة واضحة لكل من له الغلبة في الفوز بالانتخابات.
الملكة:
_لا أستطيع أن أتصور كيف سيكون الوضع مع رئيس وزراء لا يتحلى بثقتي حين أفكر في أحوال الأمور معك.
فيرد تشرشل عليها:
_كنت متنمرا فظيعا؟!!
الملكة:
_بل كنت ملاكي الذي يحرسني، والسقف الذي يحميني، وعمودي الفقري الذي يدعمني، والذي يجعل قلبي قويا بوجوده، كنت البوصلة التي ترشدني وتوجهني، لست أنا وحدي من يحبك، كلنا نحبك.

هذا التعبير البسيط في الحوار يسلط الضوء على الإرث السياسي الذي يتركه القادة والأثر الذي يخلفونه وراءهم حتى بعد أن يغادروا الساحة السياسية.

باختصار ما أثار إعجابي في هذا العمل الدرامي هو القدرة على التعمق في تفاصيل الشخصيات بطريقة تجعل الأحداث التاريخية أكثر إثارة وتفاعلا وقبولا وتصديقا.

مسلسل “التاج” ليس مجرد عرض للأزياء التاريخية والديكورات الفخمة كما نفعل نحن في مسلسلاتنا، بل هو درس في الوطنية والإنسانية، وفي تأثير القرارات الكبيرة على اللحظات الصغيرة والعكس.

السير ونستون تشرشل، كان يكبر الملكة إليزابيث الثانية في ذلك الوقت بـ 52 سنة، وهو أشهر رئيس وزراء بريطاني، وهي أشهر ملكة في تاريخ بريطانيا العظمى، ولكن على الرغم من فارق العمر والخبرة السياسية، ورغم إنجازاته التاريخية الخالدة، كان عندما يقف بين يدي الملكة يبدو كتلميذ يقف أمام أستاذته لشدة تقيده بالبروتوكولات الملكية ولشدة احترامه وتوقيره للملكة.

وفي مشهد من مشاهد هذا المسلسل، تمتلئ عينا الملكة بالدموع وتهم بالسقوط، بينما تتابع حديثها مع تشرشل، وهي تتأمل من خلال زجاج نافذة غرفته، وتتساءل:
_ما مصير بريطانيا العظمى لو فقدت ابنها الأبرز وتقصد بذلك تشرشل؟
ثم بعد سؤالها المعبر هذا، تستدير نحو تشرشل فتجده قد استسلم للنوم ونام، متجاهلا كلماتها الصادقة، وبلطف، تتقدم نحوه، وتأخذ نظارته من بين أصابع يده وتضعها إلى جانبه على الطاولة، وتقبله على جبينه ثم تغادر الغرفة بهدوء.

سؤالي بعد هذا السرد لبعض مشاهد هذا المسلسل، لماذا لا نرى أعمالا درامية سعودية مثل هذه الأعمال الراقية بدلا من مسلسلات الجن والزار والألفاظ الساقطة، والهذيان الدرامي، وعنتريات الحارة وأعواد المزامير فنحن لدينا ملوك من أرقى ملوك الأرض قاطبة، ووزراء لا يقلون وطنية وإخلاصا عن تشرشل للملكة إليزابيث الثانية ولبريطانيا.

اترك الإجابة على سؤالي هذا للكتاب والمؤرخين وكتاب السيناريو والمنتجين والمخرجين لعلي أنام واستيقظ من نومي وأجد دور العرض تمتلئ بأعداد مشاهدين تفوق أعداد مشاهدي مسلسل التاج على منصة “نيتفليكس” وأفلام تجسد شخصيات ملوكنا مع بعض وزرائهم المخلصين، تظهر قوتهم في اتخاذ القرارات المصيرية و الصعبة وتبرز جوانبهم الإنسانية.

فقد لوحظ تحول في الذائقة العامة للمواطنين والمشاهدين في المملكة ودول الخليج ، و أصابهم الملل والإحباط من مسلسلاتنا التافهة التي لا تقدم مضمونا ذا قيمة، ويطالبون في كل مكان بمحتوى يعكس ثقافتهم ويحترم عقولهم، و”جماعتنا” ما زالوا يسيرون بإنتاج أفلامنا ومسلسلاتنا على نهج مسلسل مريم الغضبان رحمها الله (حبابة)، الجدة التي تقص على حفيداتها لولوة ونادية كل يوم قصة من قصص ألف ليلة وليلة، فانخفضت نسب مشاهدة أعمالنا الدرامية السعودية التي تعرض بكثافة على شاشاتنا الصغيرة في شهر رمضان المبارك، والجمهور بدأ يُعرض عن القصص السطحية والسيناريوهات المكررة التي لا تتضمن رسائل معنوية أو تعليمية أو وطنية، أو التي لا تسهم في رسم صورة إيجابية لتاريخ هذا الوطن العظيم وقادته وثقافته التي تمثل قمة الإنسانية، فمتى يتجه صناع أعمالنا الدرامية الى انتاج مسلسلات راقية تتسم بالعمق والجودة، وتحمل رسائل مؤثرة ترتقي بالذوق العام ، وتنير العقول،  وتغرس الوطنية، فهذه الخطوة خطوة مهمة وليست فقط استجابة لرغبة الجمهور، بل هي أيضا استثمار في مستقبل المملكة ودول الخليج والدراما السعودية والخليجية.

الجمهور السعودي والخليجي باختصار يريد محتوى يحترم ذكاءه، ويعكس تاريخه وقيمه، ويرفع ذكر ومقام قادته في المملكة العربية السعودية ودول الخليج، وهو ما يجب أن يؤخذ على محمل الجد من قبل صناع المحتوى الدرامي وإلا فالمنصات الرقمية سوف توسيع خيارات المشاهدة أمام هذا الجمهور المحبط من صلاح قنواته الإعلامية ، وتفوت على القنوات التلفزيونية التقليدية السعودية والخليجية تقديم محتوى متنوعا وعميقا يلبي احتياجات المشاهدين الباحثين عن المعرفة والمتعة والتسلية و تغلق أبوابها ونستريح..!!

محمد الفريدي

محمد الفريدي

رئيس التحرير

‫4 تعليقات

  1. لله درك سعادة المستشار جعلتني أتحمس لمثل هذه الأعمال واغوص في مضمونها و فهم مقاصدها بالتوفيق و إلى الامام.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى