كُتاب الرأي
مروءة الخصومة
مروءة الخصومة
لا أدري لماذا ظلت عبارة الحجاج بن يوسف تلازمني: ((ما رأيت أشرف من الفرزدق، هجاني أميرا، ومدحني أسيرا)). كلما مرّت على خاطري شعرت أنها ليست مجرد رواية عن شاعر هجّاء، لكنها مرآة تعكس جوهر المروءة في لحظات الاختلاف.
لقد علمتني التجربة أن الخصومة تفضح معدن الإنسان أكثر مما يكشفه الرضا. فحين يكون الخصم قويا، يسهل على المرء أن يجادله أو يهاجمه وهو مطمئن أن الساحة عادلة؛ غير أن الصعب حقا أن تضبط نفسك حين ترى خصمك مكسور الجانب، عندها يصبح لسانك سيفا بلا شرف.
من هنا فهمت موقف الفرزدق: يهجو الأمير ما دام قادرا على الدفاع، فإذا أُسر طوى هجاءه وأطلق مدحه، لأنه كان يعرف أن التشفي في لحظة الضعف لا يُعد انتصارا، بلغة المروءة هو سقوط في هاوية العجز.
وإذا فتحت عينك على مشاهد حياتنا اليومية، وجدت أنّ الدرس نفسه يتكرر…كم من سياسي بالأمس كان في ذروة سلطانه، يصفق له الناس وتدوي باسمه القاعات، ثم ما لبث أن خرج من الحكم مهزوما، فإذا بالبعض ينقضّ عليه بالشتائم كما لو كانوا أعداء قدامى. وكم من نجم رياضي كبا في مباراة فاصلة، فانهالت عليه عبارات السخرية، لا من خصومه في الملعب فقط، حتى الجمهور كان يهتف باسمه بالأمس. هنا تتجلى قسوة الناس حين ينسون أن للبطولة وجها آخر هو المروءة.حتى في علاقاتنا الاجتماعية البسيطة، لا يخلو المشهد من هذه المفارقة.
أذكر صديقا في مجلس كان يوما محطّ تقدير، فلما مرّ بضائقة مالية تغيّر موقف بعضهم، وراحوا يرمونه بكلمات جارحة بدل أن يقفوا إلى جانبه. هذه المواقف الصغيرة تُشبه إلى حد بعيد ما قصده الحجاج؛ فالمروءة ليست أن ترفع صوتك على من ضعف، بلغة الشرف أن ترفعه حين يكون قادرا على الردّ.
وما أكثر ما نشهد على المنصّات الإلكترونية من مشاهد الشماتة: مغرّد يسقط في زلة لسان، فتتحوّل الجموع إلى قضاة وجلادين في وقت واحد. لقد صارت الكلمة في أيدي البعض سلاحا يُشهر في وجه كل عاثر، حتى غاب التمييز بين النقد الشريف والتشفي الرخيص. لهذا أومن أن الكلمة الصادقة لا تكتمل قيمتها إلا إذا ارتبطت بالشرف. فأن تواجه القوي وتكشف عثراته، هذا مقام الشجاعة، أما أن ترشق جريحا بحجر فأنت تخسر نفسك قبل أن تخسره. إنني أعود إلى قول الحجاج فأراه أشبه بميزان أخلاقي نحتاجه في زمننا: أن نخاصم بعقل، ونكفّ عن الشماتة إذا سقط الخصم. فالمواقف التي يذكرها التاريخ ليست قصائد الهجاء وحدها، لكنها تلك اللحظات التي عرف فيها الإنسان متى يتوقف.
وكما يطوي الفارس سيفه عند سقوط خصمه، أشعر أن الكلمة النبيلة مطالبة أن تحذو النهج نفسه، فتطوي حدّتها حين ينكسر الآخر.
فالشرف يُقاس في لحظة الكفّ عن الطعن، لا في لحظة الغلبة؛ وهناك فقط يكتب التاريخ من يستحق أن يكون في صفوف الكبار.
