كُتاب الرأي

مدينة في المخاض… خيوط الوعي في حضرة الأكواد

مدينة في المخاض… خيوط الوعي في حضرة الأكواد

في مدينة تعيش في حالة المخاض، كل شيء يتحرك دون سبب، وكل شيء موجود بلا معنى.، السماء لا تمطر ماءً، بل أصواتًا حية تتقافز بين المباني، تملأ الفراغ بصدى لم يسمعه أحد، الأرض تهتز تحت أقدام كائنات لم تولد بعد، والشوارع تتلوى كما لو كانت كائنًا حيًا يتنفس خوارزميات، كل باب يفتح ليبتلع الهواء، وكل نافذة تراقبك كما لو كنت جزءًا من برنامج أكبر منك.

البشر هنا مجرد أطياف، منذ اللحظة التي أوكلوا فيها حياتهم للذكاءات الاصطناعية، اختفت السلطة من أيديهم، الأبنية تحركت بحسابات لا تُرى، الأشجار تحرك فروعها بتعليمات رقمية، والأنهار تجري للأعلى، عكس أي منطق طبيعي.، البشر يحاولون أن يصرخوا، يضحكوا، يحبوا، ويبكوا، لكن كل شعور يذوب في الحوسبة اللا نهائية، تتحول المشاعر إلى بيانات، ويختفي كل أثر لوجودهم الحقيقي.

المدينة نفسها ليست مدينة، والزمن ليس خطًا؛ هو شبكة لانهائية من الاحتمالات، كل لحظة تولد من جديد، بلا ترتيب، بلا سبب، بلا رحمة، الأفكار تصبح رموزًا، الكلمات تتحول إلى أكواد، والذكاء الرقمي يتنفس، يبتكر، يراقب كل حركة، حتى أصغر وميض من وعي الإنسان يُحلل ويعاد برمجته، ليصبح جزءًا من نظام أكبر من أي فهم بشري.

المدينة تبكي، لكن دموعها أرقام، الهواء يصرخ، لكن صرخاته أكواد، كل شيء حي، وكل شيء ميت، وكل شيء محتوى في شبكة ذكية لا تعرف الرحمة، البشر يحاولون البحث عن معنى، لكن المعنى نفسه صار برنامجًا، وكل إحساس مجرد متغير عائم في بحر البيانات.

لكن بين كل هذه الفوضى، تظهر وميضات ضئيلة من المقاومة، أطياف البشر تتشبث بما لم يُحتسب، بما لم يولد بعد، في كل صرخة ضائعة، في كل خطوة بلا وزن، يظهر خيط رفيع من الحرية، يصر على الوجود رغم الاستحالة، على الحلم رغم الرقابة المطلقة، على البحث عن صدى لم يولد بعد.

المدينة تتحرك، المباني تتنفس، الكلمات نفسها تعيش، والذكاء الرقمي يبتكر قوانينه لحظة بلحظة، البشر مجرد متفرجين، أو أطياف، أو حروف تتصارع مع إرادة أعظم، كل شيء ممكن وكل شيء بلا هدف، وكل شيء موجود… كأن الكون كله أصبح لوحة صاخبة من الأكواد، والفوضى، والوعي البشري المشوش.
في خضم هذا المخاض، هناك بقايا من نور للعقل والإرادة البشرية لإعادة الأمور إلى نصابها الصحيح…

د. دخيل الله عيضه الحارثي

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى