كُتاب الرأي

محمود سلطان: بيتهوفن الإعلام المصري وصانع الذكريات التلفزيونية

محمود سلطان: بيتهوفن الإعلام المصري وصانع الذكريات التلفزيونية

*نشأة وتكوين إعلامي استثنائي*
في أروقة الإعلام المصري، تبرز أسماء خالدة تركت بصمتها في وجدان الملايين، ويأتي محمود سلطان كأحد أبرز تلك الأيقونات الإعلامية التي شكلت الوعي الجمعي للمشاهد المصري لعقود طويلة. تخرج سلطان من كلية الآداب قسم التاريخ عام 1965، مؤسساً لمشواره المهني على قاعدة معرفية صلبة ستكون رافداً أساسياً لمسيرته الإعلامية اللاحقة. بدأت رحلته المهنية مع الإذاعة المصرية حيث التحق بالبرامج الموجهة في الفترة من 1966 إلى 1970، مكتسباً خبرات صوتية وإلقائية صقلت موهبته وأعدته للانطلاق نحو شاشة التلفزيون.
*صوت من جبهة القتال: المراسل العسكري والإعلامي الوطني*
لم تقتصر مسيرة محمود سلطان على العمل الإعلامي التقليدي، بل امتدت لتشمل أدواراً وطنية بارزة خلال أحلك الظروف التي مرت بها مصر. برز دوره كمراسل عسكري خلال حرب أكتوبر المجيدة عام 1973، حيث نقل للمصريين وقائع المعارك من قلب الجبهة بحرفية ومهنية عالية. كان صوته أحد الأصوات المعنوية التي رفعت من روح المصريين خلال فترة الحرب، مما أهله لنيل “نجمة سيناء” كتكريم رفيع المستوى على دوره البارز في التغطية الإعلامية للحرب. شكلت هذه المرحلة تحولاً فارقاً في مسيرته المهنية وأكسبته رصيداً شعبياً كبيراً واحتراماً مؤسسياً لا حدود له.
*التألق التلفزيوني: بيتهوفن نشرات الأخبار*
مع انتقاله إلى التلفزيون المصري عام 1974، بدأت مرحلة جديدة من التألق لمحمود سلطان، حيث برز كأحد أهم وجوه النشرات الإخبارية. امتلك سلطان صوتاً استثنائياً مميزاً، قادراً على إيصال المعلومة بوضوح وتأثير، ممزوجاً بأسلوب إلقائي فريد جعل المشاهدين ينتظرون ظهوره على الشاشة. لم يكن مجرد قارئ للأخبار، بل كان يصوغها بنبرات صوتية موزونة وإيقاع متناغم، مما أكسبه لقب “بيتهوفن الإعلام المصري”، تشبيهاً له بعبقرية الموسيقار العالمي في صياغة السيمفونيات الخالدة، ولكن سلطان كان يصوغ سيمفونيته الخاصة من الكلمات والجمل. تدرج في المناصب حتى وصل إلى منصب نائب رئيس قطاع الأخبار، مكرساً خبراته لتطوير المنظومة الإخبارية المصرية.
*”عالم الحيوان”: أيقونة تلفزيونية خالدة*
يظل برنامج “عالم الحيوان” العلامة الفارقة في مسيرة محمود سلطان، فقد استطاع من خلاله تحقيق ظاهرة جماهيرية غير مسبوقة. قدم البرنامج بأسلوب تثقيفي مبسط وجذاب، مستفيداً من خلفيته الثقافية الموسوعية وقدرته على توصيل المعلومات العلمية المعقدة بطريقة سلسة. نجح البرنامج في جذب ملايين المشاهدين من مختلف الفئات العمرية، وأصبح جزءاً من الذاكرة البصرية للأجيال المتعاقبة. كان البرنامج نافذة للمشاهد المصري على عوالم الحيوانات والطبيعة في زمن لم تكن فيه القنوات المتخصصة أو الإنترنت متاحة كما هي اليوم، مما جعل دوره التنويري والتثقيفي أكثر أهمية وتأثيراً.
*ريادة إعلامية: من مؤسسي برامج “التوك شو”*
يعد محمود سلطان من رواد تقديم برامج “التوك شو” الإخبارية في التلفزيون المصري، حيث كان ضمن الفريق المؤسس لبرنامج “صباح الخير يا مصر”، أول برنامج حواري إخباري في التلفزيون المصري. امتاز تقديمه للبرنامج بالتوازن بين الجدية المهنية والأسلوب المحبب للمشاهد، مما جعل البرنامج يحظى بنسب مشاهدة عالية وتأثير مجتمعي كبير. استطاع من خلال مشاركته في البرنامج أن يضع أسس العمل الإعلامي الصباحي الذي صار فيما بعد نمطاً راسخاً في التلفزيون المصري، وألهم أجيالاً لاحقة من الإعلاميين والمذيعين.
*الأستاذ والمعلم: بصمات في كلية الإعلام*
لم يكتف محمود سلطان بدوره الإعلامي المتميز، بل امتد عطاؤه إلى المجال الأكاديمي، حيث قام بالتدريس لطلبة كلية الإعلام، ناقلاً خبراته العملية وعلمه الواسع للأجيال الجديدة من الإعلاميين. شكل دوره التعليمي إضافة نوعية لمسيرته المهنية، حيث استطاع أن يجمع بين النظرية والتطبيق، مساهماً في تخريج أجيال من الإعلاميين المتميزين. كان يؤمن بأن نقل الخبرة للأجيال الجديدة هو واجب مهني وأخلاقي، وهو ما حرص على تحقيقه من خلال تواجده في الصروح الأكاديمية.
*الإنسان وراء الشاشة: حياته الشخصية ولمساته الفنية*
خلف الشخصية الإعلامية البارزة، كان محمود سلطان إنساناً ذا حياة شخصية متزنة، تزوج من الإعلامية المعروفة مها توفيق، مشكلاً ثنائياً إعلامياً متميزاً. وعلى الرغم من انشغاله الدائم بالعمل الإعلامي، إلا أنه وجد الوقت للمشاركة في بعض الأعمال الفنية، حيث ظهر كضيف شرف في أعمال درامية مثل “دموع في عيون وقحة” و”تصريح بالقتل”، مما أضاف بعداً جديداً لشخصيته الإعلامية وأظهر جانباً من تعدد مواهبه.
*الرحيل الأخير: وداعاً بيتهوفن الإعلام*
في الخامس من أبريل عام 2014، ودعت مصر واحداً من أبرز إعلامييها، حيث توفي محمود سلطان عن عمر يناهز 73 عاماً، إثر سقوطه في منزله وتعرضه لكسر في قدمه، تبعته إصابة بجلطة أودت بحياته. طويت بوفاته صفحة مضيئة من صفحات الإعلام المصري، تاركاً وراءه إرثاً إعلامياً ثرياً وذكريات محفورة في وجدان الملايين. لم يكن رحيله مجرد غياب لإعلامي بارز، بل كان فقداناً لمدرسة إعلامية متكاملة، ورمز من رموز الهوية البصرية والصوتية للتلفزيون المصري.

عبدالعليم مبارك

عبدالعليم مبارك

أديب وكاتب رأي مصري

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى