شيء من الذاكرة

✍️ الكاتب و القاص / محمد علي مدخلي
يقبع بيتنا في حارة ذات أزقة. تصطف عليها بيوت صغيرة متلاصقة . كثيرا ما أقفز على سطوحها إذا ما أرسلتني أمي لإحداهن.
لازلت ذاكرتي تختزل موقفين حدثا .
في طفولتي ، كنت أجلس على عتبة الباب انتظر قدوم والدي من عمله . كان شارعنا الترابي هو الشريان الحقيقي لتجّار المواد الغذائية والمواشي.
و بينما كنتُ أرقب المارّة ، اقتلعني أحدهم بشدة وامتطى بي حماره هارباً .
سمع صراخي رجل ضئيل رث الثياب وحافي القدمين . ركض بكل ما أوتي من سرعة . لحق بنا عند قناة معشوشبة تفصل الحقل عن الطريق . أمسك اللجام بيسراه وحملني على كتفه الأيمن. وقفت الدابة وفرّ صاحبها .
أقام والدي مأدبة عشاء كبيرة، على شرف ذلك الرجل الذي أنقذني. دعا فيها جميع أهالي القرية ..
وفي السادسة عشر من عمري، زارت حارتنا فتاة غضة السن، تبدو متألقة في شالها الأسود. تعتل سِلالاً مصنوعة من الخوص. تجوب البيوت لبيعها . قمت بالكثير من الحركات لِجذب انتباهها وهي تناول أمي سلة من مبيعاتها . لمحتني ،افترّ ثغرها عن ابتسامة خفيفة . لمحتُ في وجهها نظرة مُنهكة.
من يومها اتخذت من عتبة منزلنا مركازاً؛ في انتظار بائعة السِلال .
شهرٌ كاملٌ مرّ قبل عودتها . هذه المرة كانت تحملُ أواني فخارية .نفضتُ الغبار عن ملابسي ،ورحتُ أتتبعها…
أتحين انحناءة زنقة للبوح لها . تدخلُ من بيت وتخرج من آخر . وأنا أتوارى خِفية . حرصت أن أقلل حركتي ما أمكن . اشتهيتُ التدخين . حميتْ الشمس وازددتُ حنقاً .
ها هي تخرج من آخر البيوت .أخذتُ نفساً من السيجارة ،وسحقتُ عقبها . سرتُ في ظل الجدار حتى نهايته.
في آخر الحارة كهلٌ أقزل، يقف في مئزره المفرط الطول ،في انتظارها . لابدّ أنه والدها !
عليّ أن افتعل أي حيلة . أسرعتُ الخطى؛ ناديت بأعلى صوتي:
– ياعم ؛ ياعم .
– مابِك !
– ألا تريدان أن تشربا في هذا اليوم القائظ ؟
أشار للفتاة الغضة قائلاً :
– شكراً جزيلاً ، فزوجتي بحوزتها الطعام والشراب !.
وراح يحجل على الطريق وهي تتبعه …!
كاتب و قاص