كُتاب الرأي

**ما بين حضن أمي وجدران غرفتي**

 

**ما بين حضن أمي وجدران غرفتي**

في صغري، كنت أتوق لأن أكبر؛ لأفعل كل شيء أريده، لأكسر كل القوانين والممنوعات التي يفرضها عليّ والدي. كنت أريد أن أكون حرًا مثل الكبار، أفعل ما أريد. كنت أرفض كل شيء منهم تقريبًا، ورغبت بشدة في ابتعادهم عني وعن حياتي؛ ليتركوني أتصرف كما يحلو لي.

أما الآن، فإني أتمنى عالم الطفولة من جديد. أشعر بأنني لا أزال صغيرًا لا يُحتمل. أريد أن أعود كما كنت في الصغر؛ أسمع بالمشكلة وأتعمد تجاهلها، فأنا لست معنيًّا بحلها! أمي وأبي موجودان لأجل ذلك.

عندما أدركت أنني كبرت قليلاً، وأصبح كلاهما بعيدًا عني، كنت في كل ضيق ألجأ إلى النوم الطويل. كأني أواسي نفسي وأقول لها: “اهدئي، لا تخافي! سننام أنا وأنت، وعندما نستيقظ سيكون كل شيء على ما يرام. لا تقلقي، فقط نامي”. وتمر الأزمات واحدة تلو الأخرى، وعندما أستيقظ، تنتابني حالة من الأسى؛ لأنني أدرك حينها أن المشاكل لم تُحل، بل هي موجودة تنتظرني، وقد تضخمت وازدادت سوءًا.

أنهكتني مصاعب الحياة. فأنا أرفض أن أكون مسؤولًا عن أي شيء، ولا يصدر مني أي فعل. كنت، في اللاوعي، آمل أن أصحو ذات يوم لأجد أبي وأمي، أو حتى أحدًا من إخوتي الكبار، موجودًا ليحل هذه المشاكل. أدركت أنني وحيد، بلا مغيث؛ كأني أواجه جيوشًا وأشباحًا مخيفة في ليل عتيم، وليس معي من كنتُ أختبئ في أحضانهم، مغمضًا عيني، تاركًا لهم مواجهة العالم نيابة عني.

أتوق لأن أختبئ في حضن أحدهما، ممسكًا برقبته وأنا مبتسم وسعيد، أشعر بالأمان، وأسرق النظرات من خوفي من حين لآخر، ناظرًا لما يخيفني بنظرات المنتصر.

في معركة الحياة، تملكني الخوف والتوتر، وفقدت الأمان الذي كنت محاطًا به. أصبح نومي خفيفًا، وافتقدت تشجيعهم وتطمينهم بأن كل شيء سيكون بخير. فقدت قوانينهم التي كانت دائمًا لحمايتي من كل ما من شأنه أن يؤذيني. لم يعد أحد يهتم بي، وأصبحت فعلًا متوترًا، خائفًا، قلقًا من كل شيء.

اضطررت للاعتماد على نفسي في حل مشاكلي. أُخطئ وأُصيب، أفرح بنفسي أحيانًا، وأستاء منها أحيانًا أكثر. أُوبّخها بصمت، وأُحدثها كثيرًا؛ فهي رفيقتي الوحيدة، وهي – للأسف – غِرَّةٌ مثلي!

أصبحت أنا المسؤول الوحيد عني، وهذا شيء جديد لم أعهده سابقًا. ما بين الدراسة والعمل، لا يوجد من يهتم إن تأخرت أو حتى تغيبت عن اختبار نهائي في الجامعة، ولا يلتمس أحدٌ العذر لي في أي تقصير. فهم يعاملونني كشخص مسؤول، ولا يعلمون ما بداخلي من تخبُّطٍ وضياع.

لا أحد يهتم إن عدت لغرفتي عند غروب الشمس جائعًا، بلا طعام ينتظرني. ولم يعلم أحد عن تلك الليالي الباردة التي باغتتني بقسوة، ولم يخطر ببالي أن أستعد لها بلباس أو لحاف. ولم يرني أحد وأنا أرتجف كشمعة في مهب الريح، ودمعة ساخنة تشق طريقها على خدي المتجمد.

عندما أعود إلى غرفتي، لا أجد أحدًا سوى جدرانها الصامتة الكئيبة، وسريري الذي لا أسمع منه سوى صريره المتذمر من تقلبي عليه كل ليلة، بحثًا عن جهة تريحني لأنام عليها. لا أجد من ينتظرني ليسمع شكواي بحب وألم، عندما تؤلمني سوء معاملة معلمي أو مديري في العمل، أو حتى تهكم أحدهم وسخريته مني.

لا أحد يمسح دموعي في الليالي السوداء سوى مخدتي، تلك التي لم يغسلها أحد منذ أشهر، والتي تحمل رأسي كل ليلة بلا أدنى حنان. وإذا حاولت أن أدس رأسي داخلها كما كنت أفعل في حضن أمي، كتمت أنفاسي؛ كأنها تحالفت عليّ مع كل ما في الغربة لترفضني هي الأخرى. تمنيت لو أنني أخذت مخدة أمي في سفري؛ لأشم رائحتها وأشعر بحنانها، بدلًا من تلك المخدة القاسية.

افتقدت دعاء والدي الذي كان يجعلني أواجه أي خوف بثقة بالنصر والحماية. فقدت قدرتي على التذمر والصراخ في وجوه الآخرين؛ فأنا هنا محاسب على كل شيء.

في غربتي، كنت لا أجد طعامًا، إما لنسياني أو تعبي وعدم مقدرتي على الطبخ. فتذكرت طعام أمي الذي كنت أنتقده، ودموعي تسيل على خدي.

في يومٍ كنت مريضًا بالحمى والتهاب اللوزتين، ذهبت إلى دوامي في الجامعة. بعد خروج الطلاب، بقيت مكبًّا على طاولتي دون أن أشعر. أظهرت لي المعلمة بعض الاهتمام عندما سألتني إن كنت على ما يرام. لم يكن في الفصل سواها. نهضت بصعوبة من على مقعدي، وهي في مواجهتي، أخبرتها بأنني مريض قليلاً. فقالت لي بلهجة صادقة حانية: “أنا آسفة لأنك مريض، وأتمنى أن تتعافى قريبًا”.

خنقتني العبارات، وامتلأت عيناي بالدموع. وعندما لاحظت ذلك، حضنتني، فانفجرت باكيًا بين يديها. وبسرعة خاطفة، تملكني الخوف، وسحبت نفسي بعيدًا عنها، وشكرتها على مضض، وعيناي تدوران باضطراب، تتفقدان المكان لتحددا: هل أصاب بالهلع أم أشعر بالأمان؟

حرمني الخوفُ من فضيحة أن يراني أحدٌ أبكي في حضن المعلمة، من تلك اللحظات الحانية التي وجدتها فجأة بعد طول حرمان. سحبت نفسي على عجل، خوفًا من أن يكون أحد قد رآني أو سمعني. في لحظة، ظننت فيها أنها أمي.

في ذلك الحضن المسروق، أدركت أنني لست طفلًا ولا رجلًا، بل غريقٌ فقد، بعد هذا الحضن المزيف، أمه مرتين.

خرجت من الفصل وأنا أحاول جاهدًا أن أتمالك نفسي. وما إن عبرت سور الجامعة، حتى اختبأت خلف شجرة عتيقة، رأيت فيها ملاذًا لي، وبكيت بحرقة كما لم أفعل من قبل. رثيت نفسي وأهلي ووطني وطفولتي التي لم أقدّر نعيمها يومًا.

كفكفت دموعي، وجلست في ظل تلك الشجرة، ساندًا ظهري إليها، ساعتين كاملتين، أفكر في نفسي. ثم التهيت بمراقبة الناس في الحديقة. كان يوجد من حولي بعض العوائل يجلسون مع أطفالهم الذين يجرون ويضحكون ويلعبون في المكان، فحرّكت طاقتهم الجميلة طاقتي الكئيبة الراكدة. أغمضت عيني ودعوت ربي بصدق وقلت له: «يارب لا تكلني إلى نفسي، ودبِّر أموري فأنت من يُحسن التدبير، وكن لي خير صاحب ورفيق. اللهم أنت القائل: “وَمَن يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ”، وأنت حسبي وكفى».

فتحت عيني، ورأيت غرباء مثلي في تلك الحديقة، من جنسيات مختلفة، يجلسون مع بعضهم، يتحدثون ويضحكون كما لو كانوا عائلة. وغريبًا آخر يجلس وحيدًا يراقب الناس من حوله، ويبتسم بين فترة وأخرى. أدركت أني لست وحدي في الغربة، فهنالك الكثير مثلي، وبعضهم أصغر عمرًا مني. فنفضت عن قلبي غبار الحنين، وقررت أن أعيش التجربة بقبول وحب.

استعنت بالله، وبقلمي ودفاتري، وحددت أولوياتي: ما يجب عليّ فعله، وما لا يجب. ووضعت الخطط واحدة تلو الأخرى، وأجرّب وأصيب وأخطئ. تعلمت أن أطبخ، وأن أحتفظ بطعام جاهز مجمد لحين حاجتي إليه، وأن أغسل ملابسي أولاً بأول، وأن أرتب وضعي للازمات أو الطوارئ. وتعلمت أن أكون أكثر جرأة في مخاطبة الناس، وأن لا أتردد أبدًا في السؤال عما لا أعرفه، وأبحث دائمًا عن خيارات متعددة، بدلًا من الانحصار في خيار واحد. تعلمتها بشكل إجباري، وكنت أتمنى لو أنني أعرف هذه المهارات الأساسية منذ الصغر.

عاصرت أشياء كثيرة، ومرت بي ظروف متنوعة ما بين شدة ورخاء. وأصبحت أكثر قربًا من ربي، معتمدًا ومتوكّلًا عليه، وواثقًا بحسن رعايته لي. ففي غيابهم عني وجدته، وفي صمتهم سمعته.

ومع كل تجربة، كنت أزداد خبرة وقدرة على تحمّل المسؤولية، التي لم يعلّمني إياها والداي من فرط حبهما لي. فالغافل، كما يقول المثل، توقظه الصدمات.

ليت أمي وأبي طبقا مقولة الحكيم: “ابنك ريحانتك سبعًا، وخادمك سبعًا، وصاحبك سبعًا، ثم اترك بعد ذلك”، لكان اختصر ذلك عليَّ الكثير من المعاناة. فما بين حضن أمي وجدران غرفتي، عبرت من الطفولة إلى الرجولة، حاملًا الذاكرة درعًا، والمسؤولية سلاحًا، وأمضي نحو مستقبل واعد.

انتهت حكاية الأمس، لكنها فتحت أبوابًا من الأسئلة في داخلي، أسئلة لم أطرحها يومًا على نفسي، لكنها الآن تُلح وتدق بشدة:
– هل كان الحنان الزائد عائقًا لنضجنا، حين خاف والدانا علينا أكثر مما علمونا كيف نعيش؟
– وهل الحرية الحقيقية هي في كسر القيود أم في تحمل مسؤولية النفس بالكامل؟
– وهل لا نعرف الله حقًّا ونتعلق به إلا بعد أن نيأس ممن سواه؟
– هل هنالك فعلًا ولادتين: ولادة جسدية، وولادة روحية؟

ما بين حضن أمي وجدران غرفتي، عبرت من طفولتي إلى رجولتي، حاملاً الذاكرة درعًا، والمسؤولية سلاحًا، والإيمان زادًا، وماضِيًا بثبات نحو مستقبلٍ لا يُنتظر، بل يُصنع.
…………

رحمة حمد

 

 

رحمه حمد

كاتبة رأي

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى