مادة التعبير… الكنز الذي أهملناه فانطفأت شعلة الإبداع

مادة التعبير… الكنز الذي أهملناه فانطفأت شعلة الإبداع
هل سمعتم أنين الحرف حين يُمنع من النطق؟
هل رأيتم الدواة تذرف حبرها حزنًا على جيلٍ جُرِّد من البيان؟
هل أدركتم هول الجريمة التربوية حين شُيِّعت مادة التعبير بلا عزاء؟
إنها مأساة لم تكتبها الأقلام، بل كتبتها خيبات السنين!
يا قوم، كان التعبير فنًا وفكرًا، وكان للطالب وطنًا داخل الورقة البيضاء، يهاجر إليه كلما ضاقت به المساحات الضيقة، ويبوح فيه بما لا يقدر أن يقوله في دروس الحساب ولا صفحات الجغرافيا، فكيف نطفئ مصباح الوعي ونشتكي من الظلام؟
لقد كانت مادة التعبير مَشرعةً للنَّفس، ومِرآةً للعقل، ومِصعدًا للروح، تلامس فيها القلوب الحروف، وتتعانق المشاعر بالأفكار، فيها يشرق الصامت، ويتكلّم الخجول، وتتحوّل الأسطر إلى منابر، والكلمات إلى نيازك من نور، فيها يُختبر الفكر، ويُصقل الذوق، ويُروى الوجدان.
لكنّا ـ ويا للأسف ـ بدّلنا الذي هو خير بالذي هو أدنى، فأهملنا الكلمة، وعانقنا الصمت، فمات الإبداع في مهده، وتخشّبت الألسن، وتكلّست العقول، حتى غدا الطالب يتلعثم أمام فكرة، ويختنق أمام سطر، ويغرق في قطرة مداد.
أيها التربويون..
أتدرون ماذا خسرنا؟
خسرنا جيلاً كان يمكن أن يكون لسان الأمة، وسفير المعنى، وصوت الضمير.
خسرنا مواهب كان يمكن أن تُنشد في ميادين الشعر، وتُحاور في صروح الفكر، وتخطب في منابر الوعي.
خسرنا الكلمة حين قررنا أن “التلقين” أولى من “التعبير”، وأن “الحفظ” خير من “التفكير”، وأن “الإجابات النموذجية” أهم من الأسئلة الإبداعية!
التعبير ليس مادة، بل هو معركة ضد الصمت، هو ثورة الحروف على الجهل، هو النداء الأخير في وجه التبلّد، هو الذي يُنضج العقل، ويحرّر النفس، ويجعل للإنسان ظِلًا من فكر، وصوتًا من نور.
فبالله عليكم، كيف أعددتم أبناءكم للمستقبل وأنتم لم تُعدّوا لهم لسانًا يصفه، ويدًا تخطّه، وعقلًا يشرح ألوانه؟
أيها الأحبة..
ما زالت الأقلام تنظر إليكم بعين الدهشة، والدفاتر تُقلب صفحاتها باكية، واللغة تصرخ: أعيدوا إليّ أرضي، أعيدوا إليّ تعبير أبنائي.
أعيدوا مادة التعبير، لا كشبحٍ في كتاب اللغة، ولا كفقرة على استحياء، بل أعيدوها روحًا في جسد المناهج، نبضًا في قلب التعليم، منبرًا في كل صف، وحقًا لكل طالب أن يُبدع، لا أن يُملى عليه.
عودوا إلى الفصاحة، فإنها الفأس التي تشقُّ صخر الجهل، والجناح الذي يحلق في سماء الحضارة.
أعيدوا التعبير؛ فإن حروفه ليست حبرًا، بل حِكمًا، وأسطره ليست تمارين، بل تمرّدًا على القوالب الجامدة، وفقراته ليست فواصل، بل فواصلُ بين الجهل والمعرفة، وطلابه ليسوا كُتّابًا فحسب، بل أمل أمةٍ تُريد أن تُكتب لا أن تُمحى.
فيا صُنّاع القرار..
يا من بأيديكم مفاتيح المنهج ومسارات الفكر، إن كنتم تؤمنون أن النهضة تبدأ من الكلمة، فاعلموا أن أول ما يلزم الطفل بعد نطقه: أن يكتب، وأول ما يحرر الأمة بعد صمتها: أن تُعبّر.
التعبير مات، فمات معه جيلٌ لا يعرف ماذا يقول، ومتى يقول، وكيف يقول.
وإذا بقي الحال كما هو فسنصنع أجيالًا تعرف كل شيء…إلا أن تعبّر عن نفسها.
فيا قوم، أعيدوا للحرف حياته، وللخيال مجاله، وللفكر جناحه، وللمدارس ضياءها…
أعيدوا التعبير قبل أن نصحو على ألسنةٍ مقيّدة، وعقولٍ مخرّسة، وأوطانٍ لا يُدافع عنها أحدٌ بالكلمة لأننا وأدنا الكلمة!
أعيدوا التعبير، فإن لم تفعلوا، فانتظروا جيلًا يقرأ بلا فهم، ويتكلم بلا وعي، ويكتب كما يُملى عليه لا كما يُمليه عليه ضميره!
أعيدوا التعبير، قبل أن ندفن المعاني في قبور الجهل، ونُقيم على شواهدها حصص التلقين، ونكتب على جدران مدارسنا:
“هنا كانت تسكن الروح، حتى صادرناها باسم التطوير!”
ويلٌ لأمةٍ تنشئ أبناءها على الصمت، ثم تسألهم: أين المبدعون؟
ويلٌ لتعليمٍ يقتل السؤال، ويخنق الخيال، ثم يبحث في الخراب عن ناطقين!
أعيدوا التعبير، أو اكتبوا بأيديكم شهادة وفاة جيلٍ بأكمله…
جيلٌ خسر لسانه، فخسر وجهه، ثم خسر هويته.
وما هذا المقال إلا صرخةٌ خرجت من صدري، لا كاتبًا يسعى للثناء، بل معلّمًا يعتصره الألم، ويعتريه القلق على أبناء وطنه، وقد رأى بعينه لا سمع بأذنه كيف تراجعت ملكة التعبير، وانكمشت اللغة في أفواه الطلاب، حتى باتت الكلمات تتعثّر، والمعاني تتآكل، والهوية تبهت شيئًا فشيئًا.
كتبت من غيرةٍ على جيلٍ يُجَرَّد من أبلغ ما يملكه الإنسان: لسانه وعقله وبيانه، كتبت لأنني أعلم ـ يقينًا لا ظنًا ـ أن اللغة ليست حبرًا على ورق، بل هي الجذور، والهوية، والعقيدة، والكرامة.
بقلم… د. دخيل الله عيضه الحارثي