كُتاب الرأي

لحظة النجاة الوحيدة

رحمة حمد

لحظة النجاة الوحيدة

في المنتصف بين الحزن والخوف تخيّل إنسانًا واقفًا، رأسه مشدود إلى الخلف بحبلٍ خفي، وقدماه ثابتتان لا تستطيعان الحراك. شيئًا فشيئًا، يميل إلى الوراء، ووجهه يتجه نحو السماء، لكن ظهره ينحني في استسلام، إلى أن يصل رأسه إلى الأرض وتنحني رقبته، وكأنه ينظر إلى الخلف. هذا هو الإنسان حين يُشدّ إلى الماضي: منحنٍ كليًا، متجهًا بجميع حواسه إلى الماضي في غفلة عن حاضره، لا يرى ولا يستشعر إلا ما فاته، منغمس في ذكرياته، يتملكه الأسى، ويصبح أسيرًا للحزن.

ثم تخيّل آخر يُشدّ من رأسه إلى الأمام، لا يستطيع المقاومة، فينحني ظهره ورأسه نحو الأرض. فهو لا يرى شيئًا أمامه، في غفلة، عاجزًا عن رؤية الحاضر والماضي والمستقبل معًا. تثقله الأمنيات، وكسب المقتنيات، يركض في خياله بين سيناريوهات لم تحدث بعد، وأوهام وظنون، فيصبح أسيرًا للخوف.

وفي المنتصف، يقف ثالث، مستقيم القامة، رأسه للأعلى، وقدماه حرّتان. ذهنه صافٍ، وقلبه سليم، خالٍ من الحزن والخوف. متأمل في نفسه وفي الكون، مستشعر للنعم من حوله، مدرك لما وهبه الله من إمكانيات فيستخدمها، آمنًا مطمئنًا، واعيًا بنفسه وبالعالم من حوله، بحضوره الحاضر في اللحظة. لا يشدّه الماضي إلى الخلف، ولا المستقبل إلى الأمام. يستطيع أن ينظر للخلف بعين المتعلّم، وللأمام بعين الحكيم المقدّر للأمور، الذي إن أدرك خطأ في الماضي استدركه، وإن أراد شيئًا للمستقبل عمل له، مستخدمًا تلك اللحظة التي يعيشها.

والله عز وجل، وتقدّست أسماؤه، يقول في محكم كتابه:

“لكي لا تأسوا على ما فاتكم ولا تفرحوا بما آتاكم”،

ليست هذه الآية دعوة للجمود، بل لبناء علاقة متزنة مع الزمن: لا نتعلّق بما مضى، ولا نفرط في الفرح بما هو آتٍ، بل نكون في اللحظة، أحرارًا من التطرف في الحزن والخوف.

والرسول، عليه وعلى آله أفضل الصلاة والتسليم، يقول:

“من أصبح آمنًا في سربه، معافًى في بدنه، عنده قوت يومه، فكأنما حيزت له الدنيا بحذافيرها.”

يتبادر إلى الذهن سؤال عن الزمن:

هل هو حقيقة قائمة بذاته؟ أم وهمٌ نصنعه نحن؟

الزمن ليس كيانًا مستقلًا بذاته، بل هو منفعل وناتج عن الحركة. فهناك زمن وهمي خارجي ناتج عن حركة الشمس والقمر، وهناك أيضًا زمن داخلي وهمي، ناتج عن التفاعل الحاصل بين العقل والنفس. كما قال الإمام علي بن أبي طالب، عليه السلام:

“وتحسب أنك جرم صغير، وفيك انطوى العالم الأكبر.”

قد تمر دقيقة في لحظة حب وكأنها ثانية، وقد تصبح الدقيقة في لحظة ألم دهرًا لا ينتهي. هذه الحقيقة تكشف أن الزمن الذي يؤلمنا أو يسعدنا ليس الزمن في ذاته، بل وعينا به، ومدى الاتزان الحاصل بين العقل والنفس في التحكم بالمشاعر التي تنتابنا. فالانصياع والانسياق وراء المشاعر بلا تفكير يجلب الهم والمرض والشيخوخة المبكرة. وهذا نلاحظه عندما نرى شخصين في نفس العمر، أحدهما يبدو أكبر من الآخر بعشر سنوات أو أكثر. وكما قال الحكيم:

“الهم نصف الهرم.”

وهنا يمكننا القول بأن الزمن الداخلي أهم بكثير من الزمن الخارجي.

الحاضر — هو الحياة الوحيدة التي نملكها —

الزمن الماضي انتهى، والحاضر من صَنعه. والمستقبل ما زال الحاضر يصنعه الآن. فلا وجود إلا للزمن الحاضر.

إن الماضي الذي نشتاق إليه ما هو إلا حاضر لم نحضر فيه بوعي كامل؛ كنا في غفلة عنه، ولم نشعر بقيمته، فأسِفنا عليه بعد ذهابه.

والمستقبل الذي نتوق إليه ما هو إلا نتاج لما نحن عليه من وعي أو غفلة.

ويمكننا الاستشهاد بمقولة ديل كارنيجي في كتابه دع القلق وابدأ الحياة:

“عِش في حدود يومك.”

أو كما قال إيكهارت تول في كتابه قوة الآن:

“أنا هنا والآن.”

وفي هذا السياق، يمكننا أن نرى الصلاة كأسمى تجلٍ للحضور.

الحضور في “هنا والآن” يشمل الخشوع في الصلاة؛ فأنت في سكينة تامة، مركز على الأقوال والأفعال في الصلاة، بذهنٍ صافٍ، وعقلٍ مدرك لما تقول وتفعل، مستقبِلًا ما يمنّ به الله عليك من نعم ورحمات وبركات، من اتصالك الكامل بالله.

فالصلاة ليست فقط فرضًا تعبديًا، بل تدريب يومي على الحضور، واستدعاء للسكينة والتوازن.

في هذا الصراع بين الماضي والمستقبل، لا ينجو الإنسان إلا إذا استقرّ في نقطة توازنه: اللحظة الحاضرة.

لكن الحضور ليس غفلة، ولا لهوًا، ولا اتباعًا للأهواء، بل وعي نقي وتأمل ينتج حبًا ورضى وشكرًا وتقديرًا لما تدركه من نعم الله عليك.

وهذا بدوره ناتج عن تناغم وتوازن بين العقل والنفس، الذي بدوره يحمينا من الانجراف مع مشاعر الحزن والخوف أو أي مشاعر أخرى.

من يتشبث بالماضي لا يتقدّم، ومن ينشغل بالمستقبل لا يرى موطئ قدميه.

وحده من يقف في “الآن” يرى كل شيء بوضوح، لأنه متصل بالحقيقة كما هي، لا كما كانت أو كما قد تكون.

أن تكون حاضرًا، أن تكون حيًا.

اللحظة الحاضرة ليست فقط ممرًا يعبر بنا الزمن، بل هي الحياة نفسها.

الماضي لم يعد موجودًا، والمستقبل لم يأتِ بعد، وما نملكه فعلًا هو ما بين نفسين من أنفاسك.

فأن تحيا اللحظة، يعني أن ترى، أن تسمع، أن تستشعر، أن تكون حاضرًا بكامل وجودك دون أن تسرقك فكرة أو شعور يفتّش في الأمس، أو يتوهّم الغد.

ليس المطلوب أن نُهمل الذاكرة أو التخطيط، بل أن نتعلّم كيف نستخدم الزمن دون أن يُسيطر علينا.

كيف نضع الماضي في خزائن العبرة، والمستقبل في أفق الأمل، ونعيش بينهما بسلام.

وربما هذا هو المقصود حين قيل:

“كن في الدنيا كأنك غريب أو عابر سبيل.”

أن تعبرها بوعي… لا أن تغرق فيها.

 

كاتبة رأي

رحمه حمد

كاتبة رأي

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى