كُتاب الرأي
لا تكن خروفا..!

لا تكن خروفا..!
فيصل مرعي الكثيري
ليس أشد خسارة على المرء من أن يُسلّم عقله لغيره، فيسير حيث يُقاد ويُسلب منه حق السؤال والاعتراض، كأنما نُزعت منه خاصيّة الإنسان. فالذي يُعطل فكره ويكتفي بترديد ما يُقال، يخرج من دائرة المفكرين إلى زمرة المنقادين. ولقد أحسن من قال: ((من لم يملك زمام عقله، ساقته أهواء الناس حيث يشاؤون.)) وإذا أردت مثالا حيا فانظر إلى الخروف في القطيع؛ لا يعرف لماذا يسير، ولا إلى أين ينتهي، إنما يكفيه أن يرى الذي أمامه يمشي، فيتبعه طائعا أو مرعوبا. وهكذا حال من استراح من عناء التفكير، فاستبدل بالبرهان شعارا، وبالحجة صخبا، وبالإرادة عاطفة عمياء. ومن صورة الحيوان إلى صورة الإنسان، تأمل طالبا يدخل امتحانا لم يستعد له، فيحاول أن ينسخ ما يكتبه جاره، فيخرج من القاعة فارغ الرأس، خاوي الجيب. ذلك أنه لم يبذل جهدا ليبني فكره. وعلى مستوى أوسع، انظر إلى أمةٍ تقلّد غيرها في العلم والسياسة دون نقد ولا تمحيص، فهي كمن يلبس ثوبا ليس على قدره؛ تظن أنها قد زانت نفسها، وما زادت إلا انكشافا.
ومع ذلك فالإنصاف يقتضي أن نقول: ليس الاتباع كله مذموما؛ فالتلميذ يتبع أستاذه في أول الطريق ليتهذّب، ولكن الذم كل الذم أن يبقى تابعا بعد أن شبّ عقله واستوى، كما يبقى الطفل على صدر أمه رافضا الفطام. فالعقل الذي لا يتغذى بالحرية يذبل، والإنسان الذي لا يُكلف نفسه عناء التمحيص يصبح صورة باهتة للآخرين.
وهنا يحسن التنبيه: الاعتراض لا يعني أن تجعل نفسك خصما لكل فكرة، أو أن تُظهر التفلسف في كل موقف، فتعارض لمجرّد أن تبدو مختلفا. فذلك لون آخر من التبعية؛ إذ تصبح أسير نزعة المخالفة، لا أسير عقل ناقد. الاعتراض الحق هو الذي ينبع من فهم، ويستند إلى حجة، ويقصد الإصلاح لا الاستعراض. ولمن يشك في أثر ذلك، يكفيه أن ينظر إلى صفحات التاريخ: جموع تهتف بأسماء زعماء ملؤوا الدنيا صخبا، ثم لم يورّثوا أتباعهم غير الخراب. وأقوام صفّقوا لفيلسوف مزعوم، ثم اكتشفوا أن منطقه أضعف من بيت العنكبوت. والفرق بين من تبع بعين ناقدة، ومن تبع بعين مغمضة، كالفرق بين من يركب سفينة في يد ربان ماهر، ومن يركب زورقا في يد طفل يلهو بمجدافه.
فالعاقل الذي يسلّم عقله للآخرين، إنما يعرض نفسه للبيع في سوق الأحرار، فيخرج منها عبدا بلا ثمن. والعقل الذي لا يملك صاحبه شجاعة الاعتراض، لا يساوي أكثر من ظل يتبع صاحبه حيث ذهب، ثم يزول إذا غربت الشمس. فلا تكن خروفا يلهث وراء كل ناعق، ولا تجعل من نفسك ورقة في مهب الريح. قف على قدميك، واحمل عقلك كما يحمل الجندي سلاحه؛ فالعقل بغير شجاعة لا يدافع عن صاحبه، والشجاعة بغير عقل تودي به. إن الأمم لا تنهض بالتابعين المنقادين، إنما بالقلوب التي تُبصر والعقول التي تجرؤ.
قف اليوم واسأل نفسك: أتريد أن تكون مجرد رقم في صفوف القطيع، أم علما يشار إليه في ساحات الحرية؟ القرار بيدك، والزمان لا يرحم المترددين.