كيف نصنع الهدوء وسط عاصفة الضجيج

كيف نصنع الهدوء وسط عاصفة الضجيج
منذ أن تفتح عينيك في الصباح، تنهال الأخبار والإشعارات والأصوات، وتتنقل الوجوه المستعجلة كأن العالم كله يركض في سباق لا نهاية له، وأن من يتأخر لحظة قد يفقد مكانه. الضجيج لم يعد خلفية للحياة، أصبح بطلاً يفرض حضوره، حتى كاد أن يسرق أبسط متعة: أن تستمتع بحياتك بسلام.
فإذا كان هذا الكونٍ يقاس فيه الحضور بقدر ما يُحدث من صخب، فإن الضجيج يصبح سلعة رائجة، غذاءً يوميًا لعصر يقتات على السرعة والمعلومة العابرة. فضجيج الإعلام، وضجيج الشوارع، وكذلك ضجيج المنصات الرقمية؛ كلها تجعل الإنسان كائنًا مُطاردًا بالأصوات، فاقدًا لصوته الداخلي.؛ فالسكينة ليست رفاهية، بل فضيلة تتجاوز الضوضاء.
اعلم رحمك الله أننا أصبحنا في منعطف تتسابق فيه الأصوات، وتعلو فيه الضوضاء إلى حدّ يكاد يبتلع لحظات الإنسان الداخلية، يصبح الهدوء عملة نادرة، لا تُمنح مجانًا ولا تُشترى بسهولة. إنّه صناعة حقيقية، تحتاج إلى وعيٍ ومهارة، مثلها مثل أي صناعة بشرية دقيقة، يمكننا وصفها بأنها أعظم الصناعات لأنها تُعالج الداخل قبل الخارج.
علينا تقع مسؤولية عظيمة من أجل المحافظة على الهدوء الداخلي وعزله تمامًا عن صخب الأحداث بأكملها؛ حتى ننعم بالطمأنينة، ونتفيأ تحت السكينة؛ فالهدوء ليس مجرد غياب للضجيج الخارجي؛ فالمدن قد تخفت أنوارها، والأصوات قد تسكن، ومع ذلك يبقى العقل ضاجًا والأفكار متزاحمة. هنا تظهر القيمة العميقة لـصناعة الهدوء؛ إذ هي فنّ تحويل الصخب الداخلي إلى انسجام، والفوضى الذهنية إلى ترتيب.
من الناحية الفلسفية، يرتبط الهدوء بقدرة الإنسان على إعادة تعريف نفسه أمام الآخرين. فالمجتمع الاستهلاكي يعلّمنا أن نسعى بلا توقف ونندفع باستمرار، وأن نربط قيمتنا بما نملك أو بما نحققه، بينما الهدوء يعلّمنا أن نبطئ الإيقاع ونستعيد المعنى. هو موقف وجودي قبل أن يكون ممارسة حياتية؛ قرار بأن نكون لا أن نتكدّس كما أنه يمنح الإنسان فرصة لإعادة اكتشاف ذاته. الفلاسفة اعتبروا السكينة طريقة أكثر صدقًا للحضور. ومن زاوية اخرى فالصمت عندهم يتحول إلى لغة تعيد ترتيب علاقة الفرد بالوجود، وهو مفتاح لمعرفة أن قيمة الحياة ليست في الضجيج الذي يحيط بنا، إنما في الصفاء الذي نحمله داخلنا هكذا يرون ومن هذه الزاوية يعتمدون قياسهم.
فلسفة الهدوء، إذن، هي مشروع إنقاذ للروح في محيط يزداد صخبًا. إنها مقاومة صامتة ضد ضجيجٍ يُراد لنا أن نستسلم له، وهي إعلان بسيط لكنه ناهض في وجه الضوضاء: أنا أملك زمام نفسي.
أما من الناحية النفسية، فإن صناعة الهدوء تتطلب أدوات عملية: تنظيم التنفس، إعادة تدريب الانتباه، ممارسة العزلة الواعية لا الانسحاب السلبي، والقدرة على قول ( لا) أمام زحام الالتزامات التي لا تنتهي. كل ذلك يجعل الهدوء مشروعًا شخصيًا يحتاج إلى جهد وتخطيط.
اجتماعيًا، نحن في حاجة إلى إعادة النظر في ثقافة الصخب التي تغزو تفاصيلنا اليومية. فالهدوء ليس رفاهية، بل ضرورة صحية وأخلاقية. الموظف الذي يعيش في بيئة هادئة ينتج أكثر، والعائلة التي تُحسن تدبير صمتها تعيش أوثق، والمجتمع الذي يحترم قيمة السكينة يبني فضاءً إنسانيًا أعمق.
تحليليًا، أصبح الضجيج صناعة تُغذي الإنسان بالتوتر، وكأنها تغلق أبواب التأمل. في المقابل، الهدوء فعل مقاومة؛ مقاومة لأنماط استهلاك تهدف إلى سرقة المعنى واستبداله بالسرعة. اختيار الصمت ليس فراغًا، امتلاءٌ بمعنى أعمق، كما أشار ابن سينا: العاقل من يعرف متى يتكلم ومتى يصمت.
قال لا وتسو وهو فيلسوف صيني: الهدوء هو مصدر القوة العظمى ومن يعرف الآخرين فهو حكيم ومن يعرف نفسه فهو مستنير، بينما يرى المفكر الأمريكي رالف إيميرسون أنه لا شيء يمكن أن يجلب السلام للإنسان إلا نفسه؛ أما ماركوس أوريليوس فقد كتب في تأملاته: من يعيش بانسجام مع نفسه يعيش بانسجام مع الكون.
وسط هذا الازدحام السمعي والبصري، تبرز فلسفة الهدوء. أن تختار أن تحيا بصفاء، لا يعني انسحابًا من الحياة، يعني وعيًا أعمق بطريقة عيشها. المتعة الحقيقية ليست في مطاردة كل ما يُعرض أمامك، تمنح نفسك فرصة للتوقف، لتتذوق لحظة صافية، فكرة عابرة، أو تفاصيل صغيرة تكشف عن جمال غير مرئي لمن يركضون خلف الضوضاء. كما قال الفيلسوف ماركوس أوريليوس: احرص على أن تكون هادئًا، فإن السلام الداخلي أعظم من كل صخب الدنيا.
وفي النهاية، يبقى السؤال: هل نعيش لنلحق بضجيج هذا الكون، أم لنستمتع بجمال الحياة؟
سأخبرك شيئًا قبل أن أختم: عندما يطارد العالم الضجيج بينما أنت مستمتع بحياتك، فأنت لا تهرب من الواقع، تختار أن تحيا بوعي وحرية. إن اختيارك للهدوء ليس فرارًا، إنه إعلان استقلالك عن صخب يستهلك المعنى. فلتكن لحظتك الصافية موقفًا، وهدوؤك فلسفة، واستمتاعك بالحياة رسالة تقول: في زمن يقتات على الضجيج، السكينة أعظم أشكال الحرية.
علي بن عيضة المالكي
كاتب رأي