كُتاب الرأي

كيف تموت الذات ببطء؟

كيف تموت الذات ببطء؟

ليس موت الإنسان أن يُوارى جسده في التراب، بل موته الحقيقي يبدأ حين تخبو في داخله شرارة الحياة، ويصبح أسيرًا لصوت داخلي يهمس بخبث: “لست كافيًا.
نحن لا نموت فجأة، بل نموت ببطء، حين نسلّم أرواحنا لعادات سامة ودوائر مغلقة من التفكير، نكررها يومًا بعد يوم حتى تُصبح جزءًا منا، وكأننا نُطفئ شُعلة أرواحنا بأيدينا.
تموت الذات أولًا حين نقارن أنفسنا بالآخرين؛ حين نقيس قلوبنا بمقاييس ليست لنا، ونقارن خطواتنا بخطوات من يسلكون دروبًا مختلفة، قال أوسكار وايلد:
كن نفسك؛ فالجميع الآخرون مأخوذون.
لكننا نغفل هذه الحقيقة، ونركض وراء ما ليس لنا، وننسى أن في داخل كلٍّ منا ثراءً فريدًا لا يتكرر.
وقد قال المتنبي في عزة النفس:
وإذا أتتك مذمّتي من ناقصٍ
فهي الشهادة لي بأنّي كاملُ
ويموت الإنسان مرة أخرى حين يحاول أن يتحكم في ما لا يملكه: الناس، الأقدار، ومسارات الحياة. ينفق روحه في صراع عبثي، ويغفل أن بعض الأبواب خُلقت لتبقى موصدة.
ويُذكّرنا جبران خليل جبران بقوله:
الحياة لا تعطينا كل ما نحب، لكن من نحبهم يعطون الحياة كل معنى.
فالتسليم بحكمة القدر يفتح في قلوبنا مساحات للرضا.
وهنا يأتي الإفراط في التفكير
حيث يذبل العقل مع الإفراط في التفكير؛ حين يتحول إلى سجن يحاصر الروح ويثقل اللحظة. قال دوستويفسكي:
التفكير المفرط مرض.
ويقول الشاعر:
دعِ المقادير تجري في أعنّتها
ولا تبيتنّ إلا خالي البالِ
وتموت الذات عندما يعيش في ظِل الماضي،؛ فيموت القلب أكثر حين يسجن نفسه في الماضي، يعيد مشهد الخسارة مئات المرات، وكأن التذكر سيغير النتيجة، لكن الماضي صفحة طُويت، والزمن لا يعود إلا في عقولنا.
وقد عبّر جبران عن ذلك بقوله:
لا تُحاول أن تعيد حساب الأمس، وما خسرت فيه؛ فالعمر حين يسقط لا يعود.
ثم هناك يستمر  ذلك  الصامت حين يختار الإنسان العزلة لا حبًا في السكون، بل هربًا من الانكسار. فيتحول إلى متفرج على الحياة من خلف زجاج شفاف، وهنا يحضر بيت المتنبي:
إذا غامرتَ في شرفٍ مرومِ
فلا تقنعْ بمـا دونَ النجومِ
ويشتد الموت حين يفقد الإنسان ثقته في الآخرين؛ فيرى في كل يد ممدودة نية خفية، وفي كل ابتسامة قناعًا مزيفًا. يصبح الحذر جدارًا سميكًا يعزله عن الدفء الإنساني الذي يحتاجه قلبه ليبقى نابضًا.
وقد لخّص نزار قباني هذا المعنى في بيت رقيق:
أكره أن أحبك بلا أملوأحبك بلا سبب.
فالثقة بالآخر تمنح القلب طمأنينة، حتى لو كانت بلا ضمانات.
وحين يبدأ في بناء عوالم ظنية في ذهنه، يخاف من سيناريوهات لم تحدث ولن تحدث، يصبح سجينًا لعقله، فيضعف العزم وتقل الهمة
ويقول المتنبي في إشارة للحكمة والاعتدال:
إذا كنتَ ذا رأيٍ فكن ذا عزيمةٍ
فإن فسادَ الرأي أن تترددا
إن ذلك الموت البطيء ليس قدرًا محتومًا، بل خيار يمكن تجاوزه. تبدأ الحياة الحقيقية حين نتصالح مع ذواتنا، نتوقف عن المقارنة، نترك ما لا نستطيع تغييره، ونسكن اللحظة الحاضرة بوعي وامتنان.
يقول جبران خليل جبران:
أنتَ بذرة الحياة في صحراء الوجودفلا تدفن نفسك في أرض الآخرين.
وعندها فقط تستعيد الذات قوتها، وتهمس بثقة:
أنا كافٍوما دمتُ أتنفس، فأنا حيّ بحق.
وأخيراً أيها القاريء الكريم حاول أن تحيي ذاتك ابتسم واعزم وتوكل ثم حلّق في أفق السعادة، وكن مع شركاء الإنسانية، وعش اللحظات الباقية، واستثمر فيما يجعلك أكثر ابتهاجا من فعل الخير  والبر والإحسان، وحاولوا أن تنعشوا ذواتكم، فأنتم الأقرب منها والأعلم بحالها ..

بقلم: أ /أماني الزيدان

اماني سعد الزيدان

كاتبة رأي ورواية مسرحية ومشرفة على في ظلال المشهد المسرحي

‫2 تعليقات

  1. مقالكم قطعة أدبية راقية تنبض بالحكمة والوعي. جمعت فيه بين عمق الفكرة وجمال الأسلوب، فنسجت كلماتها بحروف دافئة تُلامس الذات
    امتزج في المقال التحليل النفسي العميق للذات الإنسانية مع لمسات أدبية بديعة واقتباسات ثرية من عمالقة الفكر والشعر، ما أضفى عليه قيمة معرفية وجمالية عالية.
    هذا المقال يُبرز وعي الكاتبة وثقافتها الواسعة وصدق إحساسها، ويجعل قارئه يخرج بطمأنينة داخلية ورسالة قوية: أن الحياة الحقيقية تبدأ حين نؤمن بقيمتنا ونتحرر من قيود المقارنة والخوف

    1. شكرًا جزيلًا على كلماتك النبيلة، دكتور عبد الرحمن / شهادتك وسام أعتز به
      منكم واليكم الابداع بارك الله ذوقكم
      وسلم فكركم

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى