كُتاب الرأي

كيف تصنع أمريكا الأكاذيب؟

كيف تصنع أمريكا الأكاذيب؟

محمد الفريدي

في زمن يضج فيه العالم بموجات المعلومات، يكاد كل شخص يحمل هاتفه الذكي أن يكون شاهدا على الحقيقة، ولكن يظل الإعلام الغربي أحد أقوى الأدوات التي تُصنع بها الروايات المكذوبة وتُنسج الأكاذيب والأوهام.

يقول الكاتب والروائي والقاص الفلسطيني يسري الغول: “فوجئتُ أثناء استماعي للقاءٍ مسجّل لي عبر إذاعة NPR الأميركية، مع الصحافي المعروف ستيف إنسبيك، بأن أجزاءً كبيرة من اللقاء قد قُطعت، وتم تغيير الأسئلة بشكل فاضح، حتى وصل بي الأمر إلى درجة الشعور بالاشمئزاز.

هذا التصرف المشين لم يكن مجرّد تلاعب عابر، بل كان تجسيدا واضحا لتجاهل الإعلام الغربي للقضية الفلسطينية، ومحاولة دسّ السمّ في عسل القضية، كي لا يجد الجمهور العريض من المستمعين الغربيين ذرة تعاطف أو إحساسا بالألم الحقيقي الذي يعانيه الشعب الفلسطيني.

الإعلام الغربي، الذي يصف نفسه بحامل راية الحريات وحقوق الإنسان، دائما ما يختار أن يغضّ الطرف عن الحقائق المرة، أو يقدمها بصياغة تلوِّنها مصالحه السياسية وأجنداته المعروفة، ليُحرم المتابعون من معرفة جوهر القضية الفلسطينية.

فكيف يمكن لجمهور عالمي أن يتفاعل مع قضية معقدة مثل هذه، إذا ما قُدّمت له عبر مرآة مشوهة كهذا الإعلام الغربي الذي درج على التلاعب بالحقائق؟

هذا التضليل المتعمد لم يأتِ من فراغ، بل هو جزء من استراتيجية منظّمة هدفها تمرير روايات مفبركة تُشوه الصورة، وتخفي الوقائع المأساوية خلف ضباب من المعلومات المضللة.

لا يهم كم من الحقيقة تُحجب، ولا كم من الأصوات تُخنق، طالما أن الصورة التي تصل إلى الناس هي تلك التي تهيمن عليها المصالح السياسية والاقتصادية الغربية.

إن غياب الشفافية والنزاهة في نقل الأحداث يقود إلى زعزعة ثقة الجمهور بهذا الإعلام الذي يطمس الحقائق، ويجعل من الصعب بناء وعي عالمي حقيقي يستند إلى العدالة والإنصاف.

لذلك، يصبح من الضروري أن يطالب المتابعون والإعلاميون الحقيقيون بتحرر الإعلام الغربي من قيود المصالح والأجندات، والعمل على نقل الحقيقة كاملة دون تجزئة أو تحريف، ليصل الصوت الفلسطيني بكل أبعاده، ويُتاح للعالم أن يتفاعل معه بضمير حيّ وإنسانية حقيقية.

وفي الوقت الذي تتصاعد فيه موجات التضامن العالمي مع الشعب الفلسطيني، ويصبح دعم قضيته رمزاً للمواقف الأخلاقية والإنسانية، يجد الإعلام الغربي نفسه في مأزق لا يستهان به.

فهو مضطر للتعامل مع صوت متزايد لا يمكن تجاهله، وفي الوقت ذاته يحاول جاهدا أن يظل طرفا محايدا أو حتى متحفظا، متجنّبا الوقوف إلى جانب الحق، كي لا يغضب دوائر النفوذ التي تتحكم في خياراته.

وهذا التناقض يظهر جليا في طريقة تغطية الأحداث، حيث تُعرض صور مأساوية هنا وتُغض الطرف عن أخرى هناك، فتتحول الصورة إلى فسيفساء من الحقائق المختلطة، التي تشوش على المتلقي وتجعله يتساءل: أين الحقيقة؟

إن مثل هذه الممارسات لا تؤثر فقط على القضايا السياسية، بل تمس جوهر العدالة والإنسانية.

فكلما استطاع الإعلام أن يغطي الحقيقة أو يعيد تشكيلها، كلما تضاءل صوت المظلومين، واشتدت معاناة الشعوب التي تكافح من أجل حريتها وكرامتها.

لذلك، فإن مسؤولية المتابعين والإعلاميين المستقلين تزداد يوما بعد يوم في كشف هذا التضليل ، وتقديم الحقيقة بشفافية وجرأة.

لأن الصمت على هذا الانحراف ليس مجرد تجاهل، بل مشاركة في ظلم كبير .

ولهذا يظل الإعلام الغربي، الذي يحاول تغيير الحقائق عبر انتقاء الأخبار وتحريرها، يمثل تحديا حقيقيا لكل من يبحث عن الحقيقة، ويستحق الشعب الفلسطيني وكل الشعوب المقهورة أن يُسمع صوتهم الحقيقي، دون أي تحريف أو تزوير.

إنّ التلاعب في الإعلام لا يقتصر على فلسطين وحدها، بل هو منهجية متكررة في معالجة ملفات الشرق الأوسط والعالم العربي، حيث تُحجب الحقيقة أو تُقدَّم عبر فلاتر سياسية وإعلامية تخدم إسرائيل وأجندات معيّنة.

هذا التضليل الإعلامي يهدف في جوهره إلى تثبيت صورة نمطية عن الشعوب العربية، ويجعلها ضحية للتشويه والاتهامات بالهمجية والإرهاب، بينما يُغضّ الطرف عن مآسيها ومعاناتها الحقيقية.

وهنا تكمن خطورة الإعلام الغربي في كونه لا يكتفي بنقل الأخبار، بل يعمل على صناعة الرأي العام من خلال اختيار ما يُعرض وما يُحجب، وكيفية تقديم الأخبار. لذلك، نجد أن مؤسسات إعلامية كبرى، عربية وغير عربية، تعتمد على روايات محددة تكرّس تحيزاتها، فتخفي دور الاحتلال والاعتداء، وتقلل من حجم المعاناة اليومية التي يعيشها الفلسطيني، وتبدد مشاعر التضامن التي قد تتشكل على الأرض.

لكن هذه الأرض، التي ارتوت بدماء الشهداء وصمود أهلها، ترفض أن تُمحى حقيقتها أو تُطمس هويتها، وتظل شاهدة على الظلم، وعلى آلة التضليل مهما اشتدت.

المشكلة الأكبر ليست فقط فيما يُقال، بل فيما يُحذف أو يُشوَّه، ومن هنا يبرز دور الكاتب والصحفي كحلقة وصل بين الحقيقة والجمهور.

وللأسف، يخضع بعض الصحافيين في الغرب لضغوط سياسية أو مهنية تجعلهم يقدمون تقارير تُخالف الواقع، أو يقتطعون تصريحات ويعيدون ترتيبها بما يخدم صورة معينة، كما حدث في مقابلة الكاتب الغزاوي يسري الغول المسجلة، والتي حُذفت منها كلمة الحق، وتحولت إلى خطاب يخدم مصالح غير معلنة.

هذا السلوك الإعلامي لا يعكس فقط احتقارا للمهنيّة الصحافية، بل هو جريمة أخلاقية تجاه شعب يعاني الحصار والقتل والتدمير والاحتلال، تجاه قضية باتت تمثل ضمير الإنسانية، فكيف يمكن أن نطالب العالم بالإنصاف والعدل إذا كان إعلامه يحمل من التحيز ما يجعل من الحق باطلا، ومن الضحية جلادا؟

لذلك، تقع على عاتق إعلامنا المستقل مهمة ضخمة، وهي كسر جدار هذا التضليل، وتقديم الصورة الحقيقية بكل شفافية وموضوعية.

يجب ألا يكون إعلامنا مجرد أداة لترويج الأخبار المفلترة، بل منبرا للحقيقة والضمير الحي الذي ينقل معاناة الشعب الفلسطيني بصدق، ويكشف ممارسات الاحتلال وانتهاكاته.

وليس فقط الإعلام الرسمي، بل على كل فرد منا أن يكون واعيا ومنتبها، لا يقبل أن يكون مجرد متلق سلبي، بل باحثا عن الحقيقة، ومتعمقا في الوقائع، ولا يخضع للسطحية التي يروج لها الإعلام الغربي المسيطر، لأن الوعي العام هو أول خطوة نحو النهوض، وحين يعرف الناس الحقيقة كاملة تكون هناك قدرة أكبر على الضغط من أجل تحقيق العدالة.

إن تبديل الحقائق لا يخدم سوى أصحاب المصالح الذين يريدون إطفاء نور القضية الفلسطينية، وتطويع الرأي العام العالمي ليقف إلى جانب الظالم، أو يبقى صامتا، وهذا يجعل من مسؤوليتنا جميعا، إعلاميين وأفرادا، أن نكشف هذا التضليل ونواجهه بالحقائق الصلبة، لنحمي ضمير العالم ونحرر الحقيقة من قيود آلة التشويه الغربية، لأن العدالة لا تتحقق إلا بنور الحقيقة ووعي الشعوب، وهذا الصمت هو الذي سمح باستمرار الانتهاكات وتفاقم معاناة الفلسطينيين، وتحويل قضيتهم إلى مجرد حكاية يسمعها العالم بلا تأثير.

في المقابل، هناك أصوات متزايدة من الصحفيين والمثقفين والناشطين الذين يكسرون حاجز الصمت، ويكشفون ما يحاول الإعلام الغربي إخفاءه.

هؤلاء هم من يضعون النقاط على الحروف، ويعيدون تشكيل وعي الشعوب في سبيل الحقيقة، وهم الذين يجعلون الإعلام سلاحًا للعدل لا للظلم، ويُثبتون أن الإعلام الحرّ والملتزم بالحقيقة قادر على قلب موازين القوة وفتح آفاق جديدة للعدالة والسلام.

لذلك، نحن بحاجة اليوم أكثر من أي وقت مضى إلى تمكين الإعلام البديل، ودعم المبادرات التي تقدم تغطية شفافة بعيدًا عن الأجندات السياسية، وأن نتعلم كيف نقرأ ما بين السطور، ونميز الحقيقة من التضليل، وأن نكون صادقين مع أنفسنا قبل أن نصدق كل من يتحدث باسمنا وقضايانا.

وتبقى الحقيقة هي النور الذي لا ينطفئ مهما حاول الظلام أن يخفيه، والإعلام الحقيقي هو الذي يعكس هذا النور، وينير دروب الإنسانية، ويقف مع المظلومين مهما كانت التحديات والصعوبات، وهو صوت الضمير الذي لا يلين، ودرع الحق الذي يحمي العدالة، ليكون أملاً لمن يئنّون تحت وطأة الظلم، ورسالة نور تهدي العقول والقلوب نحو غدٍ أفضل، ولا يمكن لأي حق أن يُسلب أو يُحرف دون أن تدافع عنه الأصوات الحرة، ولا يمكن للعدالة أن تُبنى على أساس من التضليل والتشويه، وإن حماية الحقيقة ودعم إعلام نزيه وشفاف هو السبيل الوحيد لتحقيق العدالة للشعب الفلسطيني، وبناء عالم يسوده السلام للجميع، ومسؤوليتنا جميعًا وأمانة لا يمكن التهاون بها، فلنكن صوت الحقيقة الذي لا يُخمد، ومن يحمل شعلة الوعي التي تضيء دروب المستقبل.

كاتب رأي

محمد الفريدي

رئيس التحرير

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى