كُتاب الرأي

كوثر الأربش المرأة التي لا تُكسر

محمد الفريدي

كوثر الأربش المرأة التي لا تُكسر

ليست كوثر الأربش مجرد اسمِ كاتبةٍ يمر في سماء المقالة السعودية، بل شجرةً سامقةً ظلها يتسع لفكرةٍ أكبر من نصّ، وإيمانٍ أكبر من جملةٍ جميلة.

هي امرأةٌ حين تكتب، تخلع عن الكلمات أقنعة التجميل، وتزرعها في القلوب بصدقٍ يشبه طعم التضحية.

أقولها كما أعرفها من خلال كتاباتها ومقالاتها، وكما قرأت لها، وكما سمعناها تقول الحقّ حين يصمت الجميع: كوثر تكتب لتؤنسن الحقيقة، وتروي العطش الروحي في زمنٍ يُباع فيه الإنسان بلا ثمن.

إنها المرأة السعودية الوحيدة في نظري التي تكتب لتُبقي ضمير الوطن يقظاً، وتبرهن أن الكلمة الصادقة وحدها قادرة على هزيمة كثرة الضجيج والأكاذيب.

في مقالاتها الأسبوعية، وفي مقالاتها المتفرّدة في الصحف والمنصّات، ترفع كوثر صوت الإنسان فوق صوت الجماعة والطائفة، وتحفر في عقولنا حفراً ناعماً حتى تبدو كلماتها كأنها نقشٌ خالد على صخرةٍ في صحراءٍ لا تعرف الزيف ولا المجاملة.

لا تجمّل الحقيقة، ولا تتردّد في تسمية الأشياء بأسمائها، ولا تنتمي إلا لفكرة العدل والوطن، لأنها موقنة بأن الحقّ والوطن وحدهما كفيلان بالانتصار، حتى وإن خانتهما الأصوات المختلفة من حولها.

كل حرفٍ تسكبه في مقالاتها ينضح برائحة الوطنية والحكمة التي لا تهادن، ولا تتلوّن مع أعاصير الأمزجة المتقلّبة، بل تبقى ثابتةً كالجبال الراسية، تغرس في القلوب إيماناً لا ينكسر مهما هبّت عليها الرياح العاتية.

هو عهدٌ بالصدق لا ينكسر، وعزيمة لا تعرف الانحناء، ورسالة تبقى خالدةً في وجدان كل من يحمل وطنه في قلبه، والكلمة الصادقة التي لا يخبو نورها مهما حاول الظلام أن يُخفي بريقها أو يُطفئ وهجها في زمنٍ تهيمن فيه الهيمنة.

كوثر الأربش تجيد إشعال الكلمة من تحت الرماد، وتفضح زيف العقول المعلّبة، وتردّ على القطيع الذي يرى في الوطنية جريمةً تخالف الدين والمعتقد، وتؤكد بجرأتها أن حب الوطن ليس شعاراً مستعاراً، بل موقفٌ يُدافَع عنه ولو كانت وحدها.

وفي زمنٍ كان فيه الصمت موافقةً على الباطل، وقفت كوثر وحدها مراراً كعمود نور وسط عتمة أصوات مشترَاة، لتقول للعالم إن الكلمة الحرة وحدها كفيلة بأن تفضح الزيف مهما تكاثر الظلام من حولها.

ليست كوثر الأربش محايدة بين حب الوطن والمعتقد، ولا تتمنى أن تكون كذلك، لأنها تعلم أن الحياد في هذه الحالة خيانة.

فهي تقف بقوة، تدافع عن وطنها وقيمها ومبادئها، وتؤمن بأن الوطن لا ينتظر أنصاف الحلول ولا المواقف المزيّفة أو المترددة.

ترى الأشياء من قلبها، وتقولها بلسانها، وتكتبها بقلمها، ثم تتركها تحيا في عقل كل قارئٍ يبحث عن معانٍ تشبهها، وتزرع الكلمات في أرواحنا سنابلَ تثمر وعياً لا يموت، ويمضي صداها عبر أزمنةٍ لا تعرف النسيان، لتبقى شاهدةً حيةً على أن كلمة الحق سلاحٌ لا يصدأ ولا ينثني أبداً.

وفي مقالاتها، يتعلّم القارئ كيف يكون وطنياً شريفاً في زمن يزدحم بالرخيصين، وكيف يحمي فكرة العدالة وحده، حتى لو خانه الرفاق والجموع وأبناء المعتقد، ليظلّ الحامل الوحيد لراية الحق، رغم كل العواصف التي تحاول إسكات صوته، ويبقى شوكةً في حلق الباطل لا تنكسر ولا تضعف، ولو طال الزمن.

كوثر الأربش ليست كاتبة مقالٍ عابر في صحيفة، بل هي كاتبة للوطن الذي يحتاجها كاتبةً، وقائلة حقّ، ومربّية أجيالٍ على الإيمان بالكلمة النزيهة الصادقة.

هي الصوت الذي لا ينحني، والجدار الصامد الذي يحمي هذا الوطن من الزيف والخفافيش، وتبقى شعلةً لا تنطفئ في سماء الحقيقة الخالدة.

من يقرأ لها يدرك أنها ليست كاتبةً تلهث خلف بريق العناوين، ولا بطلةً تملأ صورُها أغلفة المجلات؛ بل هي صاحبة مشروعٍ أخلاقيّ، كل مقالةٍ تكتبها هي طوبةٌ في جدار الحقيقة التي تحرسها، ودرعٌ أمينٌ للكلمة الصادقة التي تبقى حيّةً مهما حاول الزيف أن يطمسها.

أكتب عن كوثر الأربش وأنا أتذكّر أن كل كلمةٍ كتبتها بصدقٍ تشبه طوق نجاةٍ من بحر الأكاذيب، وتترك في القلوب أثراً لا يُمحى مهما تعالت أصوات الزيف، وحضورها في مشهد الكتابة دليلٌ حيٌّ على أن الصدق وحده يكفي ليصنع من حروفها وطناً لا تهزّه الرياح.

أكتب عنها لأن أمثالها قِلّة؛ قِلّة يعرفون أن المقال ليس ترفًا ولا لعبةً للتسلية، بل مسؤولية يُوزن بها الإنسان قبل موته وبعده، ودليل صادق على شرف الكلمة حين تصبح حارساً للضمير، وسلاحاً يردع الباطل حين يختبئ خلف الضجيج والأصوات المأجورة الناعقة.

كوثر تؤمن أن القلم الذي لا يحرس الضمير والوطن لا يستحق أن يُمسَك به أصلاً، لأن الحروف إن لم تكن درعاً للحق، صارت خنجراً مسموماً في خاصرة الحقيقة والوطن.

لقد أدركت كوثر كيف تحوّل الآلام الشخصية إلى قوةٍ وطنية، وكيف تنتزع من تجاربها دروساً يشاركها فيها آلاف القرّاء، لتبرهن أن الإنسان حين يكون صادقاً مع نفسه، يصبح صوته مرآةً لوجع وطنه وآماله معاً.

هي ابنة مجتمعٍ شديد الانغلاق، لكنها فضّته بمقالاتٍ شجاعة، وزرعت في عتمته نوراً من الأسئلة والحقائق، لتفتح للنور طريقاً في عقولٍ ظنّ أصحابها أن في الصمت نجاة.

هي صوت المرأة السعودية التي لم تكتفِ بالصراخ من أجل استشهاد ابنها، ولا بالمطالبة بحقوقها كامرأة وحقوق مجتمعها، بل رفعت مستوى خطابها حين قالت: «الوطن أولاً»، وأثبتت أن الكلمة الصادقة قادرة على الانتصار للحق والوطن، حين ترتجف الألسن أمام ضوء الحقيقة الساطعة.

وهذا هو الفارق بين من يكتب ليُقرأ، ومن يكتب ليبني وعياً وضميراً ودولة؛ فالأول يركض خلف الأضواء، والثاني يغرس بذور الحقيقة في تربة وجدان الوطن، ليجنيها الجيل القادم أفضل وأقوى.

حين تقرأ لكوثر الأربش لا تحتاج إلى دليلٍ على نزاهة فكرها، فكل حرفٍ منها يشهد عليها، ويكفي أن تتبع مقالاتها لتدرك أنك أمام كاتبةٍ لا تبيع قناعاتها، ولا تهادن في قول الحق، مهما ارتفع ثمن الكلمة وتزايدت الضغوط القاسية.

يكفيك أن تتتبع مقالاتها القديمة والجديدة لتكتشف أنها ثابتةٌ على مبادئها، مثل نخلةٍ لا يغيّرها موسمٌ ولا تهزمها ريحٌ صرصرٌ عاتية.

هي سيدة مقالةٍ ذات هيبةٍ أخلاقية، تجيد فنّ الكتابة والهدوء في زمن الفوضى، ومواجهة المتمردين في زمن العصيان والتمرد.

في زمننا هذا الذي تُباع فيه الأصوات وتُشترى فيه المواقف، تظل كوثر الأربش شاهدةً على أن الكاتب الحقيقي لا يُشترى ولا يُباع، وأن المقالة إذا كُتبت بالحق، صارت جسراً للوعي وخدمة الوطن، لا سياجاً لحماية المصالح المؤقتة.

كوثر الأربش هي الكلمة الصادقة حين تصبح درعاً، والمقالة حين تتحوّل إلى مواقف لا تنحني.

هي النموذج المشرف الذي يذكّرنا بأن الكتابة رسالةٌ لها ثمن، وثمنها أن تبقى واقفًا وحدك إن اقتضى الأمر، وأن تقول «لا» في الوقت الذي يظن فيه الجميع أن «نعم» هي السبيل الأسهل، لأنها تؤمن أن الوقوف مع الوطن أعظم من أي رضاٍ مؤقت أو مصالح زائلة.

في مقالات كوثر الأربش يتعلّم القارئ أن الشجاعة لا تُعلَّق على لافتات، بل تُحفَر في سطور صادقة، وأن الكاتب الحقيقي الذي لا يخاف على نصّه من كيد الحشود هو وحده الذي يليق به أن يكون بوصلةً لأجيالنا القادمة.

كوثر الأربش في حضورها تتساقط الأقنعة وتبقى الوجوه الحقيقية، وفي مقالاتها تسترد الكلمة بريقها من تحت ركام الخطب الكاذبة.

فهي التي أعادت للمقالة السعودية هيبتها حين أرادها البعض أن تكون تابعةً.

هي التي أضاءت زاويةً جديدةً للإنسان البسيط، لتقول له إن الكلمة بلا نفسٍ طائفي تحميها إذا صدقت، وتخونها إذا كذبت، لأنها جسر يربط بين القلوب، ويحمل صوت الحق والضمير لكل الناس، ويزرع بذور الوحدة والوعي في أرض الوطن، لتبقى شامخةً رغم كل المحاولات التي تسعى لتفريقنا وزرع الفتن بيننا، لأنها تؤمن أن الحقيقة أقوى من كل الدسائس، ووحدتنا هي السلاح الوحيد الذي لا يُقهَر.

إن احتاج الوطن إلى من يكتب له بضميرٍ مستقلٍّ حرٍّ، فإن كوثر الأربش واحدةٌ من هؤلاء القلائل الذين يكتبون له بدمهم قبل حبرهم، ويقولون للباطل «لا» ولو بُحَّت أصواتهم، لأنهم يعرفون أن الكلمة الشريفة وحدها هي التي تبني وطناً لا يهتز أمام حملات التزييف، ولا ينكسر أمام طعنات الخونة.

كوثر الأربش، لكِ ألف قبلةٍ على جبينك من كل كلمةٍ حرةٍ كتبتِها، وكل فكرةٍ وقفتِ بها في وجه الريح، وكل قارئٍ احتفظ بنصٍّ من نصوصك كتعويذةٍ ضد التلوّن والخوف، لأنكِ باختصار كتبتِ بصدقٍ فصرتِ للصدق عنواناً، وعلّمتِنا أن الكلمة النزيهة تبقى حيّةً مهما اشتدّت من حولها الرياح والغبار، وأن الحقيقة لا تُطمس مهما حاولت الخفافيش والظلام أن تعود لطمسها من جديد.

كاتب رأي

محمد الفريدي

رئيس التحرير

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى