كُتاب الرأي

كلُّ صغيرٍ محبوب… إلا صغيرَ الخبزة

كلُّ صغيرٍ محبوب… إلا صغيرَ الخبزة

د. سارة الأزوري

في الحياة اليومية، كثيرًا ما تمرّ على الألسنة عباراتٌ تبدو لأول وهلة بسيطة أو مألوفة، لكنها، حين نتأملها ببطء، تكشف عن بنية عميقة من الوعي الشعبي المتراكم. من هذه العبارات، تلك التي تقول: “كل صغير محبوب، إلا صغير الخبزة.”

لا تُقال هذه الجملة دائمًا بدافع التندّر، بل كثيرًا ما تُقال بنبرةٍ أشبه بالاعتراف: نبرةٍ تنطوي على ملاحظةٍ دقيقة، لا تخلو من حرجٍ خفيّ، لما في النفس البشرية من مفارقة. هي ليست سخرية بقدر ما هي ومضة إدراك، لحظة يلتقي فيها السلوك اليومي بالغريزة المتخفية تحته.

فالناس، في الغالب، ينجذبون إلى كل ما هو صغير. الصغر يُقرأ، لا شعوريًا، بوصفه رمزًا للبراءة، للوعد، للهشاشة التي تثير غريزة الحماية. نُحب الطفل لأنه لم يتشكّل بعد على صورة العالم، نحبّ الزهرة الغضّة لأنها ما تزال تقاوم العطب، ونحبّ الكائن الصغير لأنه لم يدخل بعد في نظام المفاضلة والمنافسة. الصغير لا يهددنا، بل يعزّز شعورنا بالقدرة والحنان معًا.

لكن هذا التعاطف مع الصغير ليس مطلقًا، ولا بريئًا تمامًا. إنه، في حالات كثيرة، محكوم بشرطٍ خفي: ألا يمسّ هذا الصغير مصالحنا المباشرة. وهنا تبرز مفارقة “صغير الخبزة” بوصفه الصورة الأكثر فجاجة لهذا الشرط.

فالخبز، رمز القوت الأول، هو نقطة التقاء الحاجة بالجسد، بالرغبة، وبالحقّ. وعندما يوضع أمامنا خبزٌ نقتسمه، نبدأ في تقييم الأحجام، في موازنة الحصص. وفجأة، لا يعود الصغير محبوبًا. صغير الخبزة يُترك، يُؤجّل، يُعطى لمن لا اعتراض له. إنه الجزء الذي نمرّ عليه سريعًا، رغم أننا قد نُظهِر الكرم في سياقات لا تمسّ جوهر حاجتنا. وهنا، تكشف العبارة عن وجهٍ لا نحبّ أن نراه في أنفسنا: أننا نحبّ الصغير طالما لم ينازعنا، ونعطف على الضعيف طالما لم يطالب بحصته كاملة.

قد يُقال إن في هذه العبارة شيئًا من الظرف الشعبي، لكنّ الأعمق أنها تُقدّم نقدًا وجوديًا. فهي تضعنا أمام سؤال لا يُقال عادة:
هل محبّتنا للضعيف نابعة من عاطفة خالصة، أم من شعور بالتفوق الآمن؟
وهل نحن مستعدّون لاقتسام الخبز فعليًا مع من نُحبّ، أم أن المحبة تقف عند حدود الرغيف؟

هذه العبارة – “كل صغير محبوب إلا صغير الخبزة” – لا تعني فقط أن الناس يفضّلون الأكبر، بل تُشير ضمنًا إلى أن معيار الحُبّ يتبدّل حين ينتقل من المجاز إلى الواقع. من الصورة إلى المادة. من العاطفة إلى الفعل.

وبهذا المعنى، فهي ليست حكمة ساخرة بقدر ما هي مرآة… تُريك نفسك في لحظةٍ يومية عادية، لكنك إن دقّقت النظر، وجدت أن فيها مسرحًا كاملاً للقيم، والمصلحة، والضمير.

كاتبة رأي

 

 

الدكتورة سارة الأزوري

أديبة وشاعرة وقاصة وكاتبة رأي سعودية

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى