كلهم فاسدون إلا من رفض

محمد الفريدي
كلهم فاسدون إلا من رفض
الفساد لا يعلن عن نفسه دائما، ولا يأتيك بزي اللصوص المخطط كما في أفلام الكرتون، بل يصافحك بصفة رسمية، وأحيانًا يأتيك بابتسامة تحمل توقيع الدولة، ووثائق نظامية تمنح الباطل شرعية، وتجرّد الحق من هيبته وقيمته، وكأنه بضاعة يمكن شطبها من القائمة إذا اقتضت المصلحة.
وحين يشرعن الباطل، يتحول الفساد من جريمة فردية إلى منظومة محمية تبتلع القوانين وتقصي الشرفاء، ويحاصر المسؤول الذي يرفض التوقيع على الخطأ، ويتهم بعرقلة المشاريع أو تعطيل المصالح، فيما يُكافأ من يسايره ويعاد تدويره في المناصب بوصفه رمزًا للنجاح.
هنا لا يعود الحديث عن تجاوز عابر، بل عن خيانة موثقة بالأختام الرسمية، يُروّج لها على أنها حنكة وكفاءة إدارية.
وما لم يُكسر هذا القيد، ستظل النزاهة استثناء غريبا يُحارب، ويُمنح الفاسد مزيدًا من الأرض ليُعيد تشكيل الشرف لنا على هواه، ويزرع فينا قناعة أن الخطأ لا يُسمى خطأ إذا حماه النظام وغضّ الطرف عنه المتنفذون.
المشكلة ليست في وجود الفاسدين وحدهم، بل في تطبيع الفساد وتحويله إلى نظام يمارس باسم اللوائح والأنظمة، ويبرر بالأختام الرسمية، ويتحصن خلف قوانين مطاطة صيغت أحيانا لتخدم المنتفعين أكثر مما تخدم الوطن والحق.
جريمة بشعة أن ترى الخطأ واضحا كعين الشمس، ثم يلبس لباس القانون ليعامل كحق مكتسب، ويفرض عليك احترامه وأنت موقن أنه كذبة مختومة بالشمع الأحمر.
الكارثة الحقيقية ليست في حفنة لصوص يسرقون، بل في مجتمع يتعلم أن يحترم اللصوص لأنه اعتاد على وجودهم، ويقنع نفسه أن الاعتراض عليهم مخاطرة كبرى. والأخطر من الفساد نفسه هو حين يتحول الخوف من قول الحقيقة إلى فضيلة، ويصبح السكوت ديانة يتعبد بها الضعفاء ليحموا مصالحهم المؤقتة، بينما الوطن يدفع الثمن من مستقبله.
رأينا من تمت ترقيته لأنه كان يُحسن استغلال منصبه لصالحه، لا لأنه يخدم وطنه كما ينبغي.
ونعرفهم، ونعرف من يحميهم، وندرك أن بعض تجاوزاتهم ليست جهلا بالأنظمة، بل تواطؤا متعمدا يُراد به تثبيت الفساد، وتقديم المصالح الشخصية على مصلحة الوطن، فيظل الشرفاء في الهامش، ويُدفع بهم بعيدا عن مواقع القرار.
وهنا لا يكون الفساد مجرد تصرف فردي طائش، بل يصبح ثقافة مكتوبة بالصمت، تُدرّس في الخفاء، وتنتقل كالعدوى في إدارات ودوائر لم يعد فيها صوت الحق مسموعا إلا إذا تغنّى به المنافقون ليزينوا أكاذيبهم ويستروا عوراتهم بأوراق التوت.
والأخطر من ذلك أن هذه الثقافة تصنع أجيالًا ترى الباطل، وتتعلم كيف تلبسه قناع الحلال والشرعية، وتدافع عنه لأنه صار باب رزق وسلطة وجاه لمن يجيد التلوّن وخداع القوانين.
وحين تُغيب الحقيقة، وتُسكت الضمائر، يتحول الفساد إلى إرث يتوارثه المجتمع بأكمله، فلا يعود هناك فرق بين من يقاومه ومن يغذّيه بالصمت والسكوت.
فتتحول الأخلاق إلى صورة باهتة، والقيم إلى لافتات بلا وزن، ويغدو الوطن بأسره ساحة صراع بين من يسعى إلى إنقاذه من الظلم والظلمات، ومن يعمل على دفنه تحت ركام المحسوبية والفساد.
في حينا، كان عُمدتنا مشهورا بلقب “العمدة أبو خمسين”.
لا يوقّع ورقة ولا يختمها إلا إذا وضعت خمسين ريالا بداخلها، ويأخذها بكل هدوء، كأنه يؤدي واجبا مقدسا.
تعوّدنا، وتعود الناس جميعا على ذلك، ولا أحد كان يشتكي أو يرفع صوته، لأن الكل أراد فقط أن “يمشي أموره” و“يسلك الأمور” بلا صداع ولا وجع رأس.
حتى من كانوا فوقه، يعلمون بأمره، ولكنهم يغضّون الطرف عنه، لأن زياراته كانت مُحمّلة بـ“هدايا تليق بمقامهم الكبير”.
في مرة من المرات، وأنا صبي صغير، كتبت على جدار بيته بالبوية شخابيط ساخرة، فتم التحقيق معي بتهمة “تشويه سمعة العمدة”، وأُخذ عليّ تعهّد بعدم تكرارها، وأُطلق سراحي، أما عُمدتنا الوحش “أبو خمسين” فظل يوقّع ويختم ويقبض حتى توفاه الله.
وبعد أن كبرت، زرت أكثر من دولة عربية، وكنت أظن أن الفساد استثناء لعمدة حينا، لكنني رأيت كيف يُمارس هناك كروتين يومي لا يتوقف.
في أحد المطارات العربية، طلب مني رجل الأمن صراحة “بخشيشا” ليختم جوازي، فوضعت في الجواز مبلغا صغيرا، فختمه بسرعة البرق، وكأن القانون يركع أمام ورقة نقدية.
وفي دولة أخرى، أوقفني رجل مرور وطلب مني مالا كأنه “ضريبة سائح”، وحين سألته عن السبب، ابتسم وقال: “أنت في بلادنا، والقانون نطبقه متى نشاء، وعلى من نشاء وكيفما نريد!”.
هذا هو الفساد حين يتحول إلى عرف لا يُستحى منه.
يموت الحياء، وتُكمّم الأفواه، ويُكافأ اللص، ويُتّهم النزيه بقلة الفهم والمرونة.
في السعودية، لسنا بتلك الصورة القبيحة، لكننا لسنا في مأمن تام.
فالفساد إذا لم يُردع بالقانون، ويُحاصر بالوعي، فإنه يجد ألف طريقة ليتسلل، ويكفيه صمت واحد لينمو كورم سرطاني في جسد الوطن.
النزاهة لا تحتاج إلى الكثير من الكلام لكشف الفساد؛ فحضورها في كل مكان يكفي ليُربك المفسدين ويُقلق مصالحهم.
لذلك يسعى الفاسدون إلى إقصائها، لأنها تفضحهم وتذكرهم بأن ما اعتادوا عليه ليس طبيعيا، بل خلل ينبغي إصلاحه، وأن الخطأ مهما تكرر لا يصبح صحيحا ولا يكتسب الشرعية.
النزاهة لا تساوم، ولا تنحني، لأنها من معدن الحق، والحق إن تأخر انتصاره لا يموت.
بيروقراطيتنا تتحول أحيانا من أدوات تنظيم إلى وسائل تعطيل، وبعض الأوراق تُطلب فقط لتعجيزك ودفعك للبحث عن واسطة تُنقذك من متاهة لا تنتهي.
من يُخفي المعلومة أو يؤخرها لا يُعد موظفا فحسب، بل شريكا في دوامة الفساد. ولو سكت الناس عنه، صار الباطل أقوى من الحقيقة، وصار الكذب سيد الموقف، حتى يختنق الصادقون في زوايا الإهمال، ويصعد الفاسدون إلى صدر المشهد.
الفساد لا يُواجه بالتجميل، بل بالمكاشفة. وليست كل جهة رقابية تؤدي واجبها كما يجب، فبعضها يتحول إلى مظلة للفاسدين بدلا من محاسبتهم.
وأخطر أنواع الفساد هو ذاك الذي يرتدي عباءة الرقابة ويمنح الفاسدين صكوك البراءة باسم القانون.
التحول الرقمي فرصة ذهبية لقص أذرع المزاج البشري الذي يتحكم في الإجراءات، فنحن لسنا بحاجة إلى المزيد من القوانين بقدر ما نحن بحاجة إلى ذهنية جديدة تؤمن أن الالتفاف على النظام ليس ذكاء، وأن الصمت عن الخطأ خيانة مكتملة الأركان.
التربية على النزاهة تبدأ من البيت والمدرسة والمسجد، فالشرف لا يُقاس بالكرسي ولا بربطة العنق، بل بنظافة اليد ونقاء الضمير.
ومن يقف ضد الفساد، حتى ولو بكلمة، يمارس وطنية صافية، وأعظم خدمة تقدَّم للوطن تبدأ حين نرفض أن نكون شهود زور أو شركاء صامتين.
لسنا ملائكة، لكننا لسنا مجبرين على تقبل الخطأ وكأنه قدرنا، فبداية الإصلاح كلمة تُقال، ورفض يُسجل، وموقف لا ينكسر ولا يتزعزع.
مشكلتنا ليست فقط في الفاسدين، بل في الذين يجملون لهم القبح ويصفقون خوفا وطمعا.
السعودية الجديدة التي نحلم بها لن تُبنى إلا إذا صارت القوانين فوق الجميع، وصار الجميع تحت طائلة المساءلة، والعدل لن يتحقق إلا بجرأة قول الحق ورفض التنازل عنه.
نحن بحاجة إلى أصوات صادقة ترفض التطبيل، ولا تبيع ضميرها بحفنة مصالح، وتعرف أن الوطن لا يُحمى إلا حين نقول (لا) في وجه الخطأ.
أعرف أن الشريف يُحارب، والنزيه يُتهم، ولكننا سنكتب لأن الكتابة قادرة على كسر الصمت وكشف الزيف.
ولا نريد لوطننا أن يكون مزرعة تُقسَّم بين المنتفعين، فالأوطان تُبنى بالعدل، وتُحمى بالحق، وتزدهر بالصدق.
وستظل أقلامنا الصادقة شعلة تنير دروب الحقيقة مهما اشتدت الظلمات، والأمل في وطن العدل لا يموت.
فإذا لم نمزق هذا الستار، سنظل أسرى مسرحية عنوانها «النزاهة» ومخرجها الفساد، ولا بد أن نختار أن نكون أبطال الحقيقة، لا كومبارس في مشاهد الكذب والزيف.
ولأننا نحب هذا الوطن، سنسمي الأشياء بأسمائها، ونقف حيث يجب أن نكون؛ فإما أن نحارب الفساد أو نصبح جزءا منه.
وإما أن نكون شموعا تنير دروب الوطن، أو وقودا يُلقى في محرقة الصمت والتواطؤ الذي قضى على كثير من الأمم.
كاتب رأي
مقال عميق يتناول قضية شائكة بجرأة ووضوح.
أشكر قلمك على هذا الطرح الذي لامس وجعًا نعرفه.
الموجع فعلًا أن يتحوّل الصمت إلى فضيلة، والفساد إلى داء يُمارَس بلباقة رسمية .
ولكن لن ينتصر هذا الوباء،
طالما هناك أقلام تقول الحقيقة، وأفواه لا تخشى أن تنطق بالصدق.
استاذنا الغالي. محمد … فعلا كما قالت الاخت ابتسام الجبرين( قلت فأصبت فابدعت ) شخصت المشكلة و اسهبت في افهامها كي لايكون هناك من لايستوعب خطورة الفساد على الأفراد والمجتمع و وضعت النقاط على الحروف وسميت الاشياء بمسمياتها و لعلي استحضر قول سيدي ولي العهد ( معركتنا مع الفساد لا تتسامح مع أي متجاوز ) سماها معركة وفي ذلك استشعار من سموه الكريم لخطورة الفساد
استاذنا الغالي عند مشكلة صغيرة مع مقالاتك وأفكارك وإبداعك انني لابد ان انعزل عن من حولي اقرأ المقال بهدوء و اترك لخيالي والتراكم المعرفي لدي في تصور واقعنا من منظور كاتبا العزيز فأستمتع واستوعب
المقال صادق وموجع، سلط الضوء على الفساد حين يتحول من تجاوز فردي إلى منظومة مُمَنهجة. أعجبتني الجرأة والوضوح، لكن تمنيت لو خفّف الكاتب من التعميم والنبرة القاتمة، وقدّم بصيص أمل أو أمثلة على الإصلاح القائم. فالتشخيص مهم، لكنّ التوازن يصنع التأثير الأكبر.
المشكلة ليست في وجود الفاسدين ، بل في تطبيع الفساد وتحويله إلى نظام يمارس باسم اللوائح والأنظمة، ويبرر بالأختام الرسمية، ويتحصن خلف القوانين👍 ..
نعم ، لافض فوك أستاذ محمد ، قلت فأصبت فأبدعت👏👏👏