كُتاب الرأي

كفالة النور: الذين أكرموا القرآن فأكرمهم الله

كفالة النور: الذين أكرموا القرآن فأكرمهم الله

باسم سلامه القليطي 

في صفحات كتاب “البصائر والذخائر” للتوحيدي، قصة صغيرة في حجمها، عظيمة في معناها، تُضيء درب الإحسان كما تُضيء الآيات قلوب المؤمنين.
أن يحيى بن خالد كان يُجري على سفيان الثوري كل شهرٍ ألف درهم، فلما سمعه يقول في سجوده: “اللهم إن يحيى قد كفاني أمر دنياي، فاكفِهِ أمر آخرته”، علم أن ما يزرعه الإنسان في الأرض يعود إليه من السماء.
وحين مات يحيى، رآه أحد أصحابه في المنام، فقال له: “ما صنع الله بك؟” فأجاب: “غفر لي بدعوة سفيان”.
كلمة في السجود كانت أعظم من المال، لأنها خرجت من قلبٍ عرف قيمة المعروف، ووجّهها لمن لا يُخلف الوعد.
هذه القصة ليست مجرد حكاية تاريخية، بل رسالة مفتوحة لأهل اليُسر والبر والإحسان، تقول لهم: إن بين أيديكم كنوزا لا تُشترى بالمال، بل تُكسب بالعطاء الصادق.
ومن أعظم هذه الكنوز: تفقّد أهل القرآن، أولئك الذين يحملون كلام الله في صدورهم، ويُخرجون للأمة جيلا يقرأ ويهتدي ويُصلح.
كثيرٌ من هؤلاء المعلمين يعيشون في ضيقٍ كريم، يُخفي الحاجة خلف التعفف، ويُواصل رسالته رغم قسوة الحياة، لأن في قلبه يقين أن “خيركم من تعلّم القرآن وعلّمه”.
تأملوا جمال الفكرة: أن تكفل معلمًا يُعلّم الناس كلام الله، فتُكتب لك كل آية تُتلى على لسان طلابه، وكل تلاوة تُقرّب أحدهم إلى الله، وكل حرفٍ يخرج من فمِ صغيرٍ يتلعثم في البداية ثم يُتقن بعد حين. كأنك زرعت بستانا من الحروف الطيبة، لا يذبل، ولا ينتهي، يمتد أثره إلى آخر العمر، بل إلى ما بعد العمر. كفالة معلم القرآن ليست صدقة عابرة، بل استثمار أبديّ في النور.
وليس المقصود فقط أن تُنفق مالك، بل أن تُكرمهم في المعنى والقدر. أن تُظهر لهم مكانتهم، أن تُدخل السرور عليهم، أن تجعلهم في موضع الاحترام لا الحاجة. فأهل القرآن ليسوا أصحاب مطالب، بل أصحاب رسالة. وحين يُكرمهم أهل الغِنى، فإنهم في الحقيقة يُكرمون أنفسهم، لأن الله وعد من يُعزّ حملة كتابه بالعزّة في الدنيا والآخرة.
في زمنٍ تتكاثر فيه الأضواء على من لا يحملون علما ولا نفعا، يبقى معلم القرآن في زاويةٍ هادئة، يصنع الفرق الحقيقي بصوتٍ خافت. يُهذّب القلوب، ويُعلّم النطق بالآيات، ويزرع التقوى في عقول الصغار قبل أن يحفظوا السور. فهل يليق بمن يُعلّم الناس طريق الجنة أن يُترك يواجه قسوة الدنيا وحده؟
تفقدوه كما يتفقد الزارع زرعه، وأكرموه كما تُكرمون الكتاب الذي بين أيديكم، فهو الباب الذي خرجت منه الحروف الأولى إلى قلوبكم.
ولعل في قصة يحيى وسفيان ما يوقظ ضمائرنا جميعا:
أن المعروف لا يضيع، وأن العمل الصالح يُنقذ صاحبه بعد موته، وأن العطاء في سبيل الله لا يُقاس بالقدر بل بالنية. فيا أيها الموسر الكريم، إذا أردت صدقة جارية لا تنقطع، فاجعل لك نصيبا في كفالة معلمٍ يُعلّم القرآن. فأجرُ كل طالبٍ، وكل تلاوةٍ، وكل دعاءٍ بعد كل ختمة، يصعد إليك نورا لا ينطفئ. وما أجمل أن يُقال يوم القيامة: غُفر له بدعوة من حملة القرآن.
وما أجمل أن نختم الحديث بذكر الشاكرين الصادقين، فبلادنا –بحمد الله– سبّاقة في إكرام أهل القرآن وحملته، وعلى رأسهم خادم الحرمين الشريفين الملك سلمان بن عبدالعزيز –حفظه الله– وولي عهده الأمين الأمير محمد بن سلمان –وفقه الله–، اللذان جعلا رعاية كتاب الله وأهله من أولويات الدولة ومفاخرها.
وتواصل المؤسسات الرسمية والجمعيات الخيرية ورجال الأعمال هذا النهج المبارك في دعم الحلقات وتعزيز مكانة الحُفّاظ والمعلمين.
وقد رأيت بعيني نموذجا يُثلج الصدر في رجل الأعمال الأستاذ: مدني سليمان الأحمدي وفقه الله، الذي له مواقف مشهودة وجهود طيبة في خدمة أهل القرآن. رأيته مرة يستضيف قرابة مائة من حفظة كتاب الله من المدينة المنورة، ورأيته في مناسبة أخرى يحتفي بأكثر من مئتين من حفظة القرآن الكريم من جمهورية نيجيريا الإسلامية، يُكرمهم ويحتضنهم بمحبةٍ وإجلال.
إنه مشهد يُبهج القلب، حين ترى من يُعلي قدر الحُفّاظ ويُكرمهم، جزاه الله خير الجزاء، وبارك في كل من جعل أهل القرآن في موضعهم اللائق من التكريم والرعاية.
في الختام، إكرامُ أهل القرآن ليس فضلا يُمنح، بل وسامُ شرفٍ يُكتَب على جبين من عرف قدر الكلمة التي أنزلها الله. ومن كفلَ حاملَها، كفاه الله همَّه، وستره في دنياه، ورفع قدره في أُخراه.
فكما غُفر ليحيى بدعوةٍ خرجت من سجود صادق، فقد تُفتح لك أبواب الرحمة بدعوةِ معلمٍ متعفّفٍ لا تعرفها، لكنها تصعد إلى السماء في ساعة قبول.
فطوبى لمن جعل سهمه في كتاب الله، وترك في الأرض أثرا من نور، يقرأه الناس حروفا، وتترجمُه الملائكةُ أجرا لا ينقطع.

كاتب رأي 

باسم القليطي

كاتب رأي

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى