في ظلال المشهد المسرحي

قنديل المسرح العربي ورائده الأول

.

قنديل المسرح العربي  ورائده الأول 

في دمشق القديمة، بين الأزقة الضيقة والبيوت العتيقة التي تتردد فيها أصوات العود والموشحات الشعبية، وُلد حلم كبير في قلب فنان صغير اسمه أبو خليل القباني عام 1833. لم يكن الحلم مجرد رغبة في التمثيل والغناء، بل كان رؤية ثورية لتأسيس مسرح عربي أصيل يجمع بين العمق الفني والرسالة الثقافية والاجتماعية. وقد أصبح القباني رمزًا للإبداع والتجديد، حين استطاع أن يقيم أول مسرح منظم في دمشق ويقدّم فيه عروضًا تمزج بين الدراما والغناء والموسيقى، مقدّمًا للجمهور العربي تجربة لم يعرفها من قبل، تجمع بين التسلية والفكر.
عندما بدأ القباني رحلته المسرحية، كانت دمشق لم تعرف بعد المسرح الحديث. الجمهور معتاد على الحكايات الشفوية، والحكاواتية في المقاهي، والغناء الشعبي في البيوت والمناسبات. وهنا برزت عبقريته: لم يقلّد المسرح الأوروبي مباشرة، بل درسه وتأثر بأسلوبه في بناء الحبكة والشخصيات، لكنه دمج هذه العناصر مع الهوية الثقافية العربية، مستخدمًا اللغة العذبة والموسيقى الشرقية والحكايات المحلية. وفي الوقت نفسه، كان المسرح الأوروبي في القرن التاسع عشر قد وصل إلى مرحلة متقدمة من الاحترافية، مع نصوص واقعية وشخصيات معقدة، وإضاءة وديكور متقن، وتفاعل الجمهور مع النص. القباني رأى في هذا الأسلوب مصدر إلهام، لكنه أعاد صياغته بما يتناسب مع الذائقة العربية، فابتكر لغة مسرحية جديدة تجمع بين الواقعية والخيال، بين التاريخ والحكاية الشعبية.
تألق القباني في مسرحية “ناكر الجميل”، حيث جمع بين البعد الأخلاقي والدرامي، مقدّمًا قصة شخصية تنكر معروف الآخرين عليها، لكنه أعطاها بعدًا إنسانيًا يجعل الجمهور يتأمل في سلوكياته وقيمه. هذا الأسلوب قريب من النهج الأوروبي الواقعي الذي كان سائداً في مسرحية “الواقعية الاجتماعية”، لكنه أضاف عنصر الغناء والموشحات، ليجعل الجمهور يشعر بالانتماء، ويحوله إلى حدث شعوري وجمالي متكامل. في مسرحية “أنس الجليس”، أبدع القباني في تحويل القصص الشعبية المألوفة إلى عرض مسرحي حي، مستخدمًا الموسيقى والحركة لتقوية الحالة النفسية للشخصيات، ليجعل الجمهور يشاركهم المغامرة والتشويق. هذا قريب من الأوبرا الأوروبية الخفيفة، لكنه مع ذلك مميز بروح عربية أصيلة تجعل الحكاية مألوفة ومرتبطة بالذاكرة الشعبية.
وفي مسرحية “هارون الرشيد”، استخدم القباني التاريخ ليعكس الواقع الاجتماعي والسياسي لعصره، حيث لم تكن شخصية الخليفة مجرد رمز تاريخي، بل أداة للكشف عن الصراعات الإنسانية والسياسية، مشابهًا لما كان يقدمه المسرح الأوروبي باستخدام التاريخ للتعليق على الواقع الاجتماعي والسياسي. لكن القباني أضاف نكهته الخاصة بمزج الحوار الرفيع والأغاني الشعبية وحركة الممثل على الخشبة، مما جعل العرض قريبًا من المشاهد العربي ومشبعًا بالثقافة المحلية. أما في مسرحية “عايدة”، فقد استلهم الأوبرا الأوروبية الشهيرة، لكنه أعاد صياغتها بالكامل بروح عربية، مستبدلًا بعض العناصر الغربية بحكايات محلية، وأضاف ألحانًا شرقية جعلت الشخصيات تتحدث بلغة الجمهور الدمشقي والمصري، ليصبح العرض حيويًا وواقعيًا.
في مسرحية “الشاه محمود”، برزت قدرة القباني على تقديم الصراع الإنساني في قالب مسرحي متكامل، حيث تتصارع الشخصيات مع القدر والطموح، ويتخلل العرض الموسيقى والأغاني والديكور البسيط لكنه مؤثر، مما جعل الجمهور يعيش التجربة بالكامل. هذه الطريقة تذكّر بما كان يقدمه المسرح الأوروبي من تراكيب درامية محكمة، لكنه يفوقه في استخدام العناصر الشعبية بطريقة تجعل العرض مألوفًا ومحببًا للجمهور العربي.
أحد أهم أسباب نجاح القباني أنه لم يكن مجرد مؤلف أو ممثل، بل كان مخرجًا وفنانًا شاملاً، يدرك أهمية الإضاءة والحركة والديكور والموسيقى، وكيفية توظيف كل عنصر لخدمة الحبكة والرسالة. مقارنة بالمسرح الأوروبي، نجد أن القباني قد بلغ مستوى الاحترافية نفسه، رغم محدودية الإمكانات التقنية في دمشق والقاهرة، وابتكر حلولًا إبداعية لتحويل المسرح البسيط إلى فضاء حي ينبض بالدراما والخيال.
بعد مواجهة معارضة من المتشددين في دمشق، انتقل القباني إلى القاهرة، حيث وجد جمهورًا أكثر تقبلاً للتجديد المسرحي، وواصل تقديم عروضه، مؤسسًا قاعدة جماهيرية جديدة ومؤثرًا في جيل من المسرحيين المصريين الذين استلهموا رؤيته، مثل يوسف وهبي وجورج أبيض. استطاع أن يجمع بين الاحترافية الأوروبية والانتماء العربي، فكان نموذجه فريدًا في دمج الثقافتين، محافظة على الهوية العربية بينما استلهم أساليب الغرب في البناء الدرامي وتنظيم العروض.
رحل القباني عام 1903، لكنه ترك إرثًا حيًا في المسرح العربي. أسس أسلوبًا مسرحيًا متكاملًا يجمع بين النص والتمثيل والموسيقى والديكور، وأثبت أن المسرح العربي قادر على الإبداع والمنافسة، وأن الثقافة المحلية يمكن أن تتحاور مع الخبرات العالمية دون أن تفقد هويتها. يظل أبو خليل القباني قنديل المسرح العربي الأول وملهم الأجيال، لأنه لم يقدم مجرد عروض مسرحية، بل أرسى رؤية ثقافية متكاملة تعكس روح المجتمع وهويته، وتفتح أمامه آفاق التجديد والإبداع، لتظل مسرحياته حية في الذاكرة العربية، شاهدة على عبقريته ورؤيته المبتكرة.

بقلم د.عبدالرحمن الوعلان

الدكتور عبدالرحمن الوعلان

كاتب رأي ومسرح ومعد برامج ومشرف في ظلال المشهد المسرحي وخبر عاجل

‫2 تعليقات

  1. مقال ثري وعميق، يأخذ القارئ في رحلة عبر التاريخ ليعيد إلينا وهج البدايات الأولى للمسرح العربي …
    بتلك الصياغة البليغة ،والأسلوب المشوق مما يجعل في القراءة متعة ومعرفة في آن واحد ….
    أبدعت دكتور عبد الرحمن الوعلان

    1. أستاذتي الكاتبة المسرحية أمان، كلماتك العذبة أضاءت المقال وأضفت إليه رونقًا خاصًا. سعيد جدًا بأن رحلتي مع البدايات الأولى للمسرح العربي لامست ذائقتك الرفيعة، وشهادتك الغالية وسام أعتز به دائمًا.🌹

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى