كُتاب الرأي
قلوب من زجاج

قلوب من زجاج
سمعتُ قصةً لإحدى الصديقات جعلتني شديدةَ الحذر في التعامل مع أمي، فصرت اضع رهافةَ قلبها وحنانَها نُصبَ عينيَّ في حديثي وتصرفاتي كلها ، حتى أنني يستحيل أن اظهر لها وجعا او هما ، حفاظا على قلبها من الحزن ،
صاحبةُ القصة تقول:
“أردتُ الحجَّ إلى بيت الله الحرام، وأول ما فكرتُ فيه: أين أضع أطفالي؟ أأضعهم عند أختي الكبرى، المشغولةِ بأطفالها الثلاثة ووظيفتها؟ أأزيد الحملَ عليها؟ أم عند أمي وأبي، رغم كِبَرهما؟ هل أُرهقهما برعاية طفلين بين سنتين ونصف، وأربع سنوات؟”
ترددتُ كثيرًا، ولكن وجود عاملةٍ منزليةٍ شجّعني على أن أتركهم برعاية والدتي.
رحّبتْ أمي بالفكرة كثيرًا، فأحسستُ بالراحة.
وقبل ذهابي بيومٍ واحد، سألتني صديقتي: “هل كتبْتِ وصيتكِ؟”
لم تكن الوصيةُ تخطر على بالي، ولم يسبق لي أن كتبتُها، ولا حتى سمعتُ عن أحدٍ من محيطي كتبها.
قلتُ لها: “أي وصية؟”
قالت: “وصيتكِ إذا متِّ!”
رددتُ عليها بعفوية: “ولماذا أموت؟ أنا فقط ذاهبةٌ للحج!”
شعرتُ بخوفٍ وانقباضٍ في داخلي…
وأكملنا بقية الليل في الحديث والسَّمر، ولكنني لم أكن بخير.
ففكرة أنني قد أموت، ولا أعود من الحج، كانت صدمةً بالنسبة لي.
وبعد تفكيرٍ طويل، قررتُ أن أكتب وصيتي، فصديقتي محقة؛ قد أموت ولا أعود.
وكلما كتبتُ شيئًا، تداعت لي أشياء، وشطبتُ جملًا، ومزّقتُ أوراقًا كثيرة.
فأنا لم أكن أعلم صعوبةَ كتابة الوصية.
بعد ساعاتٍ من كتابتها، اكتشفتُ أنها ترسم صورةً لحياتي الحاضرة والمستقبلية.
إنها أشبهُ ما تكون بخريطةٍ أو خطةٍ محكمةٍ تُدير بها حياتك ، نبصرك بما فات ، وما تتطلع إليه ، وكأنها إدارةٌ واعيةٌ للحياة.
وصيتي كانت خطةً لإغلاق ملفاتٍ قديمة، وتحريري من أثقالٍ سابقة، وتخطيطًا لمستقبل أبنائي الذي غفلتُ عنه.
وهنا أدركتُ عظمةَ ديننا الإسلامي، الذي يحثنا على كتابة الوصية وتجديدها بين فترة واخرى ،، حسب المستجدات.
وكنتُ دقيقةً في كتابتها، حتى إنني وصلتُ بها إلى زواج أطفالي، وما يمكن أن يُقدَّم لهم فيه، فأنا قد أموت .
وعندما ودّعتُ أمي وأبي وأطفالي، قال لي أبي: “سنكون سعداءَ بأطفالكِ، فهم جزءٌ منكِ يا ابنتي.
ابنتكِ تشبهكِ كثيرًا.”
وأنا أَهمُّ بالمغادرة، مددتُ يدي لأمي وأعطيتها ظرفًا مغلقًا.
سألتني بدهشة: “ما هذا؟”
قلتُ لها: “هذه وصيتي.”
رأيتُ شحوبًا يعلو وجهها، وابتسامةً تحاول جاهدةً أن تفتعلها، وهي تقول: “ستعودين بالسلامة يا ابنتي.”
كانت رحلةُ الحج ناجحةً وميسرة، وتجربةً روحيةً جميلةً لا تُنسى.
استمتعتُ بها كثيرًا، وكنتُ أتواصل مع أهلي وأطفالي، والأمورُ جيدة.
وفي إحدى المرّات، سمعتُ نبرةَ صوت أمي وكأنها تبكي.
سألتُها ما بها، فقالت إنها فقط تعاني من الزكام.
شعرتُ بالخوف مما تحاول أمي أن تُخفيه عني؛ أهو سوءٌ يخصها أم يخص أبنائي ،ام انه أبي ؟
دعوتُ الله كثيرًا أن يحفظهم من كل سوء.
وعندما عدتُ، استقبلتني أمي بلهفةٍ ، أشدّ من لهفتي للقاء أطفالي.
كنتُ أحتضن أطفالي، وأمي تحتضننا جميعًا.
وكان يبدو عليها الإرهاقُ والتعب.
قلتُ لها: “يبدو أن الأطفال أتعبوكِ ، سامحيني يا أمي.”
لكنها نفت ذلك، وأبدتْ سعادتها بوجودهم.
وما إن خرجتْ أمي، حتى وجّه إليَّ أبي اللوم، ووبّخني قائلًا:
“أمك، منذ أن ذهبتِ إلى اليوم، وهي تمسك وصيتك، تقرؤها وتبكي.
فقلبُها كالزجاج، كسرتِه بتلك الورقة.
أعلم أنكِ لم تقصدي ذلك، ولكن.، وصيتي لكِ يا ابنتي: رفقًا بقلب أمك.”
انهارتْ دموعي وبكيتُ، وذهبتُ إلى أمي، حضنتُها وكلانا تجهش بالبكاء.
قلتُ لها: “سامحيني، لم أكن أقصد أن أكسر قلبك.”
ردّت وهي تنشج بالبكاء: “تلك الورقة، كلما فتحتُها، تلدغ قلبي كالثعبان.
فهي تأتمنني على حياة أبنائك، وتسرق حياتكِ مني.”
قلبي لم يحتمل فكرةَ فقدي لك ،
غمرتها بالقبلات، وبالغتُ في طلب السماح منها، علَّ ذنبي يُغتفر ،
وبعد أن هدأت القلوب، أشارت إلى خزانةٍ صغيرةٍ في غرفتها، قائلة:
“هنالك ترقد وصيتي… ستحيونها بعد مرقدي.”
ارتجفت ، وانتابني هلعٌ وخوف، كتمتُه في قلبي، وقلتُ لها: “فكرةٌ حسنة، سأفعل مثلكِ.”
ومنذ تلك الليلة، وأنا كلما دخلتُ غرفتها، أختلس النظر لتلك الخزانة الصغيرة ، بخوفٍ وحزنٍ وشيءٍ من الكره .
فهي تُشبه قبرًا مصغّرًا، بداخلِه ورقةٌ تُهددني بفقدان أمي ‘
……………..
أدركتُ أن “الأمومة هشاشةُ من حبٍّ ورحمة، تختبئُ خلف ستارٍ رقيقٍ من القوة.”
وان الوصايا ليست أوراقًا تُفتح بعد موت أصحابها لتسوية أمورٍ مادية، بل هي رسائلُ للحياة، تحثّنا على التخفف من أثقالنا، وتُذكّرنا بمن نخشى فقدهم أكثر من أنفسنا؛ أن نحبهم بصدق، ونبرهم، ولا نبتعد عنهم بقطيعة، ولا نترك للندم مجالًا بعد موتهم.
وكما يُقال في المثل الشعبي:
“خاوني مادمت حيًّ ، ولا متّ لا تبكي عليَّ.”
قلب الأم ، وما أدراك ما الأم💔
أستاذة رحمة كعادتك دائما تبهرينا بحروفك وكلماتك العميقة ،
فلقد أبدعت في تصوير الوصية لا كوثيقة قانونية جافة ، بل كفعل حب وامتداد مسؤولية👍
وكذلك عبارتك :
” فأنا قد أموت ” جاءت كصفعة وعي ناعمة ، لا تخيف بل توقظ ، و تذكرنا بضعفنا الإنساني وتدفعنا للتماسك أكثر مع من نحب👍.
دام قلمك شاهدا على وعيك ، وروحك منارة تلهم كل من يقرأ لك👏👏 .