كُتاب الرأي
قراءة في “الفرج بعد الشدّة”: رحلة بين الألم والأمل

قراءة في “الفرج بعد الشدّة”: رحلة بين الألم والأمل
باسم سلامة القليطي
هناك كتب لا تُقرأ لمجرد المعرفة، بل لتسكب على القلب طمأنينة، وتزيح عن النفس ما يثقِلها من همّ وغمّ. ومن أعظم تلك الكتب، كتاب “الفرج بعد الشدّة” لأبي علي التنوخي. ألّفه بعدما أصابته محنة قاسية كادت تفتك بروحه، فراح يفتش في بطون الكتب القديمة، يجمع القصص التي تصوّر كيف خرج أصحابها من ظلمات الشدائد إلى أنوار الفرج. ثم صاغ من هذا التنقيب دفترا حيا من دفاتر اللطف الخفي، يمدّ القارئ بجرعة من الصبر، ورشفة من اليقين.
ما يجعل هذا الكتاب حيا رغم مرور القرون أن التنوخي كتبه وهو في قلب المحنة، لا من موقع المتفرج. لقد عاش الألم أولا، ثم راح يبحث عن دوائه في تجارب الآخرين. وهذا ما يكسب الكتاب صدقا لا تخطئه العين، فأنت حين تقرأ، لا تشعر أنك أمام صفحات جامدة، بل أمام إنسان يفتح لك دفتره الخاص، يقص عليك ما رآه وسمعه ليعينك على احتمال ما أنت فيه.
يقول الشيخ (علي الطنطاوي) رحمه الله:
“يا أيها الواقعون في الضيق، الذين يعيشون الشدائد، الذين يقاسون المصائب ويتحملون الآلام، لا تيأسوا من روح الله، إن الله عنده من كل ضيق مخرج، وبعد كل شدة فرج.
هل قرأتم كتاب “الفرج بعد الشدة” للقاضي التنوخي؟
لقد قرأته وعمري 11 سنة، ثم قرأته أكثر من ثلاثين مرة، وحفظت قصصه كلها من كثرة ما أعدت النظر فيه، فاقرؤوه … وأقلّ ما تستفيدون منه أنه يهوّن على المحزون منكم حزنه حين يرى أن من الناس من أصابه أكثر مما أصابه”.
لم يكتفِ التنوخي بسرد القصص سردا جافا، بل انتقى منها ما يحمل دروسا ومعاني. ففي كل حكاية وموقف تجد رسالة واضحة: أن الصبر ليس خضوعا سلبيا، بل انتظار واثق، وأن الأمل ليس ترفا، بل قوة تنقذك من الانكسار. هذه الحكايات تتحول إلى مرايا يرى القارئ فيها نفسه، فيدرك أن محنته ليست استثناءً في الدنيا، وأن أبواب الفرج مفتوحة لكل قلب يطرقها بالرجاء.
القيمة الكبرى للكتاب تظهر حين يمر القارئ بأزمة جديدة، فيفتح هذه الصفحات فيجد فيها ما يواسيه. كأنها دفاتر أُعدّت خصيصا لتلك اللحظة، لتذكّره أن الله الذي أنجى عباده بالأمس، لن يخذله اليوم. فتتحوّل الكلمات القديمة إلى بوصلة حاضرة، تُثبّت القلب وتعيد إليه توازنه. وهذا هو معنى دفاتر اللطف الخفي: أن تحمل بين يديك سجلًا للرحمة الإلهية، يفتح لك أبواب الطمأنينة حين يثقل عليك البلاء.
قد يظن البعض أن كتابا دُوّن قبل ألف عام فقد صلته بالحياة. لكن النفس البشرية لم تتغير: ما زال الناس يُبتلون، وما زالوا ينتظرون الفرج، وما زالوا يتقلبون بين اليأس والرجاء. ولهذا يبقى “الفرج بعد الشدة” كتابا صالحا لكل زمان، لأنه لا يقدّم حلولا نظرية، بل يعرض تجربة إنسانية خالدة. إنه دفتر مفتوح من دفاتر اللطف، يعيدنا في كل قراءة إلى حقيقة واحدة: أن البلاء مهما طال، فإن رحمة الله أطول وأوسع.
في النهاية، لا يبدو كتاب “الفرج بعد الشدة” مجرد أثر أدبي، بل رفيقا يمدّك بالعزم، وصوتا يذكّرك أن ما بعد الليل إلا الفجر، وما بعد الضيق إلا السعة. هو دفتر من دفاتر اللطف الخفي، تقرؤه فتزداد يقينا أن قصص الأمس ليست للتاريخ فقط، بل رسائل تتنزل على قلوبنا نحن اليوم. وهكذا يصبح الكتاب زادا متجددا: يُذكّرك أنّ وراء كل محنة منحة، وأن يد الله التي أنجت عباده في الأمس، ما زالت قريبة تمدّك بالفرج في كل حين.