كُتاب الرأي

قبيلتي

قبيلتي

كانت هنالك قبيلةٌ اسمها “قبيلة الأنا”. تتنوع فيها الشخصيات بين حكيمٍ وسفيه، ساذجٍ وداهية، طيبٍ وخبيث، ضعيفٍ وقوي، شجاعٍ وجبان، خائفٍ وآمن، حزينٍ وسعيد.
ولأنني شيخ القبيلة ورئيسها، فأنا أكتب عن تلك القبيلة كل صباح بعد أن أتفقدها كل ليلة، حاملاً مصباحي في يدي لأستكشف بعضاً مما يختبئ في الظلام. كانت شعلة مصباحي عندما قررت أن أتزعم القبيلة ضعيفة خافتة، ترتجف فاضحةً خوفي من الظلام ومما قد ينكشف. شعلة تهتز ضعفاً، خوفاً من أن يطفئها فرد في القبيلة أقوى منها. ومع الأيام والتجارب أصبحت ثابتة قوية، زيتها الذي يضيئها منها وفيها. ولكنها رغم قوتها، عندما تضيء لي شيئاً لابد أن تنسج له ظلالاً مظلمة.
أحملها لعلي أجد جريحاً لا يعلم بأن في مدينتي طبيباً، أو أجد خائفاً لا يعلم بمن يستجير، أو ساذجاً يحتاج لكلمة تبصره، أو ضعيفاً يحتاج سنداً، أو خبيثاً يحتاج شدةً وغلظة، أو طماعاً لا يشبع يحتاج ردعاً، أو حكيماً يحتاج منبراً وسلطة، أو جباناً لا يجرؤ على أخذ حقه لمجرد أن عيناي تحدقان به!
ففي إحدى الليالي، وجدت طماعاً لا يشبع يأخذ ما ليس له. تشاورت مع الحكيم، فقال لي: “خفف عطاءك السخي عنه، أعطه فتات الخبز وسيستقيم”. وبعد عدة أيام قضاها متقشفاً، استرحمني فرحمته؛ لأنني تذكرت فقراً مدقعاً حاصرني في طفولتي. وأخذت عليه عهوداً بأن يتوب ولا يعود.
وجدت الجبان في إحدى الليالي جالساً حانياً كتفيه، ورأسه مائلاً للأمام يخبئ رأسه داخل قميصه، وعيناه تدوران يميناً ويساراً في وجل. سألته: “لماذا أنت جبان؟” فقال لي: “انظر! ذلك ما يخيفني، إنه لا يفارقني ليلاً ولا نهاراً”. وأشار بيده إلى ظله: “انظر كم هو بشع ومخيف! يا إلهي، لا أعلم إلى متى سيظل ملازماً لي؟”
قلت له: “جرب شيئاً جديداً: استقم، ارفع كتفيك، ومد رقبتك، وارفع رأسك”. رد بأنه شعر بالألم عندما حاول، وهمَّ بالعودة لوضعه السابق. ولكنني شجعته ليستمر بالمحاولة. وعندما استقام، طلبت منه أن ينظر لظله. فنظر بحذر، وأطال النظر، وقال: “هذا ليس ظلي؟! إنه لا يبدو مخيفاً!” فقلت له: “ظلك يتشكل حسب وضعك أنت، عدل من نفسك ويصبح ظلك مقبولاً”.
وبعدها أصبحت أراه بين فترة وأخرى يتجول ليلاً ولا يخاف.
أنا أحب أفراد قبيلتي بلا استثناء، الخبيث والطيب. وأسعى لصلاح أحوالهم بالشدة تارةً واللين تارةً أخرى. فذلك هو مفهوم الرعاية الحقيقية. إني لأخشى إن غفلت عنهم أن يتعذر علي إصلاحهم، فيتمردون علي، فأتحول من رئيس إلى خادم ذليل بلا سلطان. فتفقد قبيلتي عزها وتصبح خسيسة معروفةً بالدناءة، فأنتكس من الرفعة إلى الضعة.
في الحقيقة، أنا أتعب معهم، وأحاول أن أسوسهم لأمن شرهم. فكما أنهم سندي، فهم أيضاً ألد أعدائي. وأنا أعلم بأني ضعيف وهش جداً، ولو اعتمدت على نفسي لفشلت. لذلك، أنا أستعين بالله دائماً على تلك القبيلة، وأطلب منه السند، وأن لا يتركني لحولي وقوتي، بل يغمرني بحوله وقوته، وحسن تدبيره. فإني مرهون بها وبما كسبت.
وكثيراً ما يثار فضولي لأعرف: ما رأي القبائل الأخرى بقبيلتي؟ وعندما أسمع رأيهم، أعرف صدقهم من كذبهم؛ لأنني ما زلت أتفقد قبيلتي ليلاً لا نهازاً.
ودائماً أتساءل: هل ننقب بما يكفي في دواخلنا لنعرف خبايا أنفسنا؟ وما هي المصابيح التي نحتاجها؟
رفعت مصباحي بيدي، فرأيت ظلي ممتداً على الأرض بجانبي. ظلي ليس ذنباً للمصباح أن كشفه، وليس ذنبي أنا أن ظهر. فأنا وقبيلتي لسنا ملائكة، بل بشر. نحاول أن ندرك الظلال ونتحكم بها أو نستظل بتلك الظلال.
ولعلنا، مهما حملنا مصابيحنا، فلن تنقشع الظلال كلها إلا بنورٍ يتجاوزنا، نورٍ من عند الله يبدد ما فينا من عتمة، ويكشف حقيقتنا كما هي.

الكاتبة  /  رحمه حمد

رحمه حمد

كاتبة رأي

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى