نادي القصة
في زحام الحياة… نسيت أن تعيش

في زحام الحياة… نسيت أن تعيش
كانت أمًّا حنونة، كأغلب الأمهات. وكانت تحب أن تهتم بأطفالها طوال اليوم، بحب.
إلى أن مرّت بظروف حياة صعبة، تتطلب الاهتمام بأحد والديها، نتيجة للمرض.
أصبحت مرهقة ومتعبة نفسيًّا وجسديًّا، ما بين رعاية أطفال ومسنّين في الوقت نفسه.
عاشت في قلق دائم، وكأنها في سباق مع الساعة.
عانت من قلّة النوم والأرق، فالساعات والأيام لم تعد تسعفها لتنجز ما لديها من مسؤوليات.
وكأن حياتها عربة قطار لا تتوقف، وكلما ظنت أنها ستصل، زاد القطار من سرعته.
ومع ظروف عمل زوجها الضاغطة، التي تجبره على العودة في وقت متأخر من اليوم، ومع كثرة سفره وترحاله، وجدت نفسها وحيدة في تلك المعارك.
لم تعد تحتمل أن ينام أطفالها بجانبها؛ أصبحوا يزيدون من توترها وقلقها، وينغّصون عليها نومها.
فتستيقظ دائمًا دون أن تأخذ كفايتها من النوم.
أصبحت تنفر منهم، وهم يزدادون تعلقًا بها.
إلى أن اضطرت أن تكون قاسية معهم، وتمنعهم بالقوة من النوم معها.
ولكنهم، رغم ذلك، كانوا يدخلون عليها مرارًا، يوقظونها من النوم لأتفه الأمور، فلا تستطيع العودة للنوم مجددًا.
ورغم زوال تلك الظروف الضاغطة منذ سنوات، إلا أنها لا تزال، إلى الأمس القريب، إذا دخل عليها أحدهم أثناء نومها واستفاقت، تبكي بشدة، وترثي لحالها.
وخلال وضعها هذا، جاءها خبر قبولها لوظيفة كانت تتمناها منذ سنوات مضت.
ولم تعد تدري: هل تلك الوظيفة التي قبلتها خير أم شر عليها؟
فها هي تعود للضغوط، ولكن بشكل أسوأ من السابق.
شعرت بأنها كشمعة تحترق وتذبل، ولكن نورها لم يكن كافيًا للأشخاص حولها.
أصبحت ترى أبناءها نقمة بدلاً من النعمة، وصارت تراهم قيودًا تكبلها في كل شيء، بلا استثناء.
فهم لا يفهمون، ولا يساعدون بأنفسهم.
وكلما حاولت أن تجد مساحة خاصة لها ولمسؤولياتها، ازداد تعلق الأطفال بها.
ومع مرور الأيام، تفاجأت بأنها لم تجد صغارها الذين تعرفهم، لقد كبروا!
وأصبحوا هم من يرفضون الاحتضان وقت النوم، ويرفضون الجلوس معها، ويفضلون الجلوس بمفردهم، متعلقين بجوالاتهم وقصصهم الخاصة وأصدقائهم.
حتى وإن حرصت على أن تكون معهم، كانوا فقط يجاملون، ضجرين، يترقبون الوقت للانصراف والانفراد بأنفسهم أو الخروج مع أصدقائهم.
أصبحت تعيش في فراغ كبير.
فهم، لسنوات طويلة، كانوا محور حياتها، كل أيامها وساعاتها ودقائقها معهم ولهم.
حتى وإن سرقتها الوظيفة منهم، فهي كانت تحاول جاهدة أن تعوّضهم، حتى وإن كان الثمن صحتها النفسية والجسدية.
أما الآن، فهم لم يعودوا أطفالاً، بل مراهقين وبالغين، يبحثون عن حريتهم، بينما هي لا تزال مشغولة بهم.
بدأوا ينفرون منها، ويتجنبونها، ويهربون منها، وهي تجري خلفهم لاهثة.
والمسافات تزداد بينهم، فلا جريها يفيد، ولا قلبها يطاوعها على التوقف.
فهي، لسنوات طويلة، لم تتقن شيئًا غير التعلّق بهم.
بكت وتألمت طويلًا قبل أن تستوعب ما حدث.
وعندما قال لها أحدهم: “أمي، أليس لديكِ صديقات تخرجين معهن؟”
كانت كلماته تلك كالنور في الظلام.
أدركت أنها احتجبت خلف ستار الأمومة؛ فهي لم تكن أي شيء آخر غير “أم”.
لسنوات طويلة… هي أم مرهقة.
فاستعادت ذكرياتها، وتذكّرت أنها حتى الصديقات قد تركتهن في زحام التربية.
قررت أن تعزل نفسها لأيام، لتفكر في نفسها، وتفاجأت بأنهم لم يشعروا حتى بغيابها.
استرجعت كيف كانت قبل الزواج وبعده، واستحضرت كل الأشياء الجميلة التي كانت تسعدها.
ولدهشتها، كانت كثيرة جدًا.
قررت أن تسترجع ما مضى من نفسها، وشيئًا فشيئًا، شعرت بالحياة تدب فيها من جديد.
بحثت عن صديقات الزمن الجميل، ولم تحظَ إلا بواحدة.
كوّنت صداقات جديدة مع الأهل والجيران وزميلات العمل.
عادت لهواية التطريز وطوّرتها، وانضمت إلى نادٍ رياضي، وأحيت علاقتها بزوجها.
انشغلت بنفسها بدلًا من الانشغال بهم.
وكانت دهشتها عظيمة عندما وجدتهم يبحثون عنها، ويستكشفونها من جديد، وكأنها شخص لا يعرفونه، معجبين بها، ومستأنسين بوجودها.
وعرفت أخيرًا أن الأمومة ليست ذوبانًا، بل مشاركة.
وأن الحب لا يكتمل إلا حين تعود المرأة إلى ذاتها، فتمنح من اكتمالها لا من نقصها، ومن امتلائها لا من فراغها.
وأن التضحية ليست نبلًا في أغلب الأوقات.