كُتاب الرأي

* في رثاء سماحة الشيخ عبدالعزيز بن عبدالله آل الشيخ (يرحمه الله) مفتي المملكة العربية السعودية.

الدكتور/ يوسف حسن العارف

* في رثاء سماحة الشيخ عبدالعزيز بن عبدالله آل الشيخ (يرحمه الله) مفتي المملكة العربية السعودية.

*     *   *

(1) افتتاح:

خبر أتَانِي,, فاكتسى وجْدِانِي
ألماً وحُزناً.. والبُكَا أعيَانِي

قالوا توفِّيَ شيخُنا وإمَامُنا
(عبدُاالعَزِيز).. العَالِمُ الرَّبَّاني

(مُفْتي الدِّيارَ).. ونُورُهَا وضِيَاؤُهَا
أَكْرِم بهِ من مُخْلِصٍ مُتفَانِي

خَدَمَ الشَّريعَة.. وانْتَمَى لِلوَائِهَا
بِبَسَاطَةِ العُلَمَاءِ والأعْيَانِ

فهُوَ السَّمَاحةُ والفَضِيلَةُ والنَّدَى
وهُوَ الحَفِيُّ بِشِرعَةِ الرَّحمَانِ

بهذه الأبيات الرثائية، التي ولدت عصر يوم الثلاثاء 1/4/1447هـ = 22 سبتمبر 2025م، بعد أن عشت حالة الفقد، وعدم الاتزان، والبكاء الشديد، منذ أن أعلن خبر الوفاة صباح هذا اليوم وحتى أقيمت الصلاة على الغائب في الحرمين الشريفين وجميع مساجد المملكة!!

* * *

(2) تقرير حالة وتصوير موقف:

لم يكن يوم الثلاثاء – الذي توفى فيه سماحة الشيخ يوماً عادياً، إنه يوم الوطن، يوم الاحتفال السنوي في عامنا الخامس والتسعين، البلاد كلها تحتفي وتبتهج بهذا اليوم السعيد، وشعوب العالم العربي المحب للسعودية تحتفل معنا.. ولكن المشيئة الربانية تخنار هذا العالم الرباني سماحة المفتي للوفاة صباح هذا اليوم، ليلقي بظلاله الحزينة والمأساوية على أفراحنا المنتظرة والمخطط لها.

وعندما تأكد خبر الوفاة وإعلان الديوان الملكي هذه الفاجعة تداول المغردون ونشطاء السوشيال ميديا، ورواد وسائل التواصل الجديدة ومحطات التلفزة الحكومية والإذاعة الوطنية، ومحطات التلفزة العربية والعالمية هذه الأخبار المؤلمة فكان الجوُّ الثلاثائي غائم وحزين!!

ولكن من رحمة الله والناس يصلون في الحرم المكي الشريف صلاة العصر وبعدها الصلاة على الغائب (يرحمه الله) هطلت الأمطار وعم الخير مكة المكرمة وما حولها، وكأنها تعزي في فقد أحد أبرز علماء هذا الزمان (يرحمه الله)، بل هي كما أرى بشارة خير وفألاً حسناً؟ ويزيد ذلك تأكيداً تلك الجموع الحاشدة التي صلت عليه حضورياً في جامع الأمير تركي بن عبدالله بالرياض وغيابياً في الحرمين الشريفين وجميع مساجد المملكة!! وتلك الآلاف المؤلفة التيشاركت في الدفن والعزاء بمقبرة العود بالرياض،. وكل هذا من الذكر الحسن، والقدر الرفيع لسماحة الشيخ (يرحمه الله)، وأثر علمه وفتاواه في العالمين.

رحم الله شيخنا وإمامنا سماحة المفتي الذي قلت فيه في ذات الرثائية التي ولدت عصر يوم الوفاة هذه الأبيات:

يا كم رأيت الزهد في قسماته
وثباته في البذل والإحسان

هو صاحب الفتوى بكل عزيمة
وبكل معنى الصدق والإيمان

وهو الإمام بعلمه وبدينه
وهو النصوح لعامة الإخوان

* * *

(3) سماحة الشيخ ومؤسسة الفتوى السعودية:

مرت المؤسسة القائمة على الإفتاء في بلادنا السعودية بثلاث مراحل عاصرها سماحة الشيخ عبدالعزيز آل الشيخ (يرحمه الله) طالب علم ودارس للعلوم الشرعية في المعاهد العلمية التي كانت تحت مظلة دار الإفتاء والشؤون الدينية والمعاهد العلمية التي يرأسها الشيخ محمد بن إبراهيم أل الشيخ بموجب مرسوم ملكي من الملك عبدالعزيز (يرحمه الله) منذ العام 1372هـ = 1953م وفي هذه الفترة تتلمذ الشيخ عبدالعزيز آل الشيخ على يد رئيس الإفتاء الأول محمد بن إبراهيم، حيث تلقى دروس العلم الشرعي، كما تتلمذ على يد الشيخ عبدالعزيز بن باز ثاني رؤساء الإفتاء -.

ولجهوده العلمية والشرعية عُيِّن في المؤسسة الخاصة بالإفتاء عضواً في هيئة كبار العلماء سنة 1407هـ = 1987م، ثم أصبح عضواً متفرغاً في اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء بالمرتبة الممتازة. وفي عام 1416هـ = 1995م عُيِّن نائباً للمفتي العام الشيخ عبدالعزيز بن باز، وأخيراً وصل إلى رئاسة الفتوى ورئاسة هيئة كبار العلماء والبحوث العلمية في 9 محرم 1420هـ = 1999م بعد وفاة الشيخ بن باز (يرحمه الله)، واستمر في هذا المنصب حتى وفاته يوم الثلاثاء 1/4/1447هـ = 23/9/2025م. [انظر جريدة اليوم السعودية، 23/9/2025م، تقرير عن حياة المفتي العلمية والعملية].

وقد هيأ الله لي أن أعايش هذه الفترات الثلاث لمؤسسة الفتيا في بلادنا السعودية وهي على النحو التالي:

* فترة الشيخ محمد بن إبراهيم آل الشيخ (يرحمه الله) 1374هـ = 1389م. وحينذاك كنت في مرحلة التعليم الابتدائية، وكان اسم الشيخ المفتي يتردد على مسامعنا تحت مسمى مفتي الديار السعودية.

* وبعد وفاة الشيخ ابن إبراهيم عام 1389هـ توقفت هذه المؤسسة الرسمية ولمدة (ثلاثة عشر أو أربعة عشر عاماً)، ولم يعرف السبب الحقيقي لهذا التوقف، ولكن المؤشرات الأولية تقول إنه في عهد الملك فيصل (يرحمه الله) تم إنشاء وزارة العدل وأنيطت بها مسائل الإفتاء.

* ولما جاء عهد الملك فهد (يرحمه الله)، صدرت الأوامر الملكية بإعادة منصب (المفتي) وتعيين الشيخ عبدالعزيز بن باز عام 1413هـ وحتى وفاته (يرحمه الله) عام 1420هـ، وفي هذه الفترة كنت أعمل في تعليم جدة وموفداً للباكستان في مهمة تعليمية!!

* ثم عاصرت الفترة الثالثة 1420هـ = 1447هـ والتي أصبح فيها سماحة الشيخ عبدالعزيز بن عبدالله آل الشيخ (يرحمه الله) هو المفتي العام، وكنت حينها في تعليم جدة مديراً/ وقائداً تربوياً ثم متقاعداً منذ العام 1435هـ.

وتشاء الظروف في عام 1425هـ، أن أحتاج إلى فتوى حاصة في مسألة شرعية تخصني كان لابد أن أحصل على فتوى من سماحته (يرحمه الله) فأرسلت له خطاباً شخصياً أستفتيه، وجاءني الجواب الرسمي المتوج بأسلوبه الراقي:

” من عبدالعزيز بن عبدالله بن محمد آل الشيخ إلى حضرة الأخ المكرم/ يوسف حسن العارف سلمه الله… (إلخ الخطاب المرفق صورته)!! وفي هذا دلالة على الشخصية الاعتبارية لمؤسسة الفتوى في بلادنا التي يقودها علماء أجلاء مثل سماحة الشيخ يرحمه الله.

لقد مرَّت هذه المؤسسة القائمة على أمر الفتوى في بلادنا بمراحلها الثلاث تحت اهتمام ورعاية القيادة السعودية الحكيمة التي تطبق شرع الله دستوراً وحاكمية. وها نحن ننتظر الفترة الرابعة والتي لم يصدر بها حتى الآن أي مرسوم ملكي بتعيين المفتي الجديد!!

* * *

(4) سيرة عطرة ومسيرة مباركة:

ولسماحة الشيخ (يرحمه الله) سيرة عملية عطرة، ومسيرة حياتية مباركة، فهو من أسرة آل الشيخ الذين يذكر التاريخ دورهم في تجديد الدعوة الإسلامية السلفيية، ونصرتهم للقيادة السعودية في تأسيس دولتهم وبناء كيانهم الممتد منذ الدولة السعودية الأولى وحتى هذا العهد السلماني عهد الحزم والرؤية المعاصرة.

ولد (يرحمه الله) ونشأ وترعرع في المحاضن الدعوية السلفية، والمعاهد العلمية والكليات الشرعية. تقول عنه والدته سارة بنت إبراهيم الجهيمي إنه لما بلغ سن التمييز حوالي السابعة من عمره ذهب مع أصحابه الأطفال إلى الجامع الكبير وتوجه إلى المنبر ليخطب فيهم!! فأنزله أحد أعمامه من آل الشيخ وأحضره عند أمه قائلاً لها إن ولدك يلعب عند المنبر فقالت: أسأل الله أن يحييك حتى تصي خلفه في الجامع الكبير. وكان ذلك [كما ذكره الدكتور هشام بن عبدالملك آل الشيخ في كتابه (ملح العلماء) نقلاً عن منصة x الدرعية التاريخية @Duriyah 14 إلريل 2018م].

وفعلاً، تحققت دعوة الوالدة منذ العام 1412هـ عندما تم تعيينه إماماً وخطيباً للجامع الكبير بالرياض (جامع الآمير تركي بن عبدالله)، واستمر فيه حتى أقعده المرض وينوب عنه منذ العام 1428هـ ابنه الدكتور عبدالله بن عبدالعزيز أل الشيخ (حفظه الله).

وامتاز سماحة الشيخ عبدالعزيز (يرحمه الله) أنه كلف بالخطابة في مسجد نمرة يوم عرفة/ يوم الحج الأكبر طوال 35 عاماً (ما بين 1402هـ – 1436هـ) وهي أطول مدة لخطيب من ذلك المقام المبارك، الذي يصل صوته لملايين المسلمين في مشارق الأرض ومغاربها، وما ذلك إلا منحة ربانية اختصه بها بعد ثقة ولاة الأمر به!!

لقد نشأ سماحته (يرحمه الله) على حفظ القرآن، وتعلم الشريعة، ومصاحبة كبار المشايخ والعلماء حتى كوَّن نفسه تعليمياً وقضائياً وفتوى، فأصبح مرجعية علمية/ دينية يشار إليها بالبنان وتوصف بالعدالة والنسامح والوسطية. يقول عنه الدكتور محمد العمري/ الباحث في العلوم الشرعية إن الشيخ عبدالعزيز آل الشيخ أمضى عمره في محراب العلم والفتوى يزرع الحكمة ويغرس في القلوب الطمأنينة وكان صوتاً للوسطية والاعتدال يصدر عن علم شرعي ثابت ورؤية تتسع للخلاف هاتفاً للنصح والرحمة للناس [انظر جريدة الشرق الأوسط مقال عمر البدري 23 سبتمبر 2025م = 1 ربيع الآخر 1447هـ].

ويقول عنه الشيخ عبدالرحمن السديس خطيب المسجد الحرام ورئيس الشؤون الدينية بهيئة الحرمين الشريفين في أول خطبة بمسجد نمرة في يوم عرفة عام 1437هـ بعد اختياره وتكليفه بالخطابة لحج هذا العام بدلاً عن سماحة الشيخ عدالعزيز آل الشيخ, يقول (خفظه الله): إنَّ من الوفاء الواجب الشكر والدعاء لسماحة شيخنا ومفتينا الجليل وكبير علمائنا، من وقف على هذا المنبر العظيم طيلة خمسة وثلاثين عاماً موجهاً ومرشداً وناصحاً للأمة، فجزاه الله خيراً وضاعف مثوبته وبارك في علمه وعمره وعمله وخَلَقِهِ…” [انظر الشبكة المعلوماتية اليوتيوب، خطبة يوم عرفة عام 1437هـ لمسة وفاء من معالي الشيخ عبدالرحمن السديس لسماحة المفتي الشيخ عبدالعزيز آل الشيخ].

واللافت هنا أن هذا التجديد والتطوير في تنظيم خطابة يوم عرفة وعدم حصرها على شخصية واحدة له تاريخ ممتد في ثقافتنا الحجيَّة، فتشير بعض المدونات أن خطباء عرفة في العهد السعودي وعلى مدار مئة عام من 1343هـ إلى 1345هـ (خمسة عشر) خطيباً ومنهم من خطب مرة واحدة، ومنهم من طالت به المدة كالشيخ عبدالله بن حسن آل الشيخ (32 سنة) ما بين عامي 1344هـ = 1369هـ، والشيخ عبدالعزيز بن عبدالله بن حسن آل الشيخ (24 سنة) ما بين عامي 1377هـ = 1398هـ، وسماحة الشيبخ عبدالعزيز بن عبدالله آل الشيخ (يرحمه الله) (35 سنة) ما بين عامي 1402هـ = 1436هـ)!!

ثم جاءت التنظيمات الجديدة منذ العام 1437هـ حيث يختار الملك (حفظه الله) خطيباً جديداً من أحد كبار العلماء وأئمة الحرمين الشريفين للتناوب على خطابة الحج/ عرفة في كل عام!!

(انظر اللشبكة المعلوماتية ويكيبيديا: خطباء عرفة في العهد السعودي).

رحم الله شيخنا سماحة الوالد عبدالعزيز آل الشيخ رحمة واسعة فقد كان من خيرة علمائنا، وأسكنه فسيح الجنات لقاء ما قدم للوطن وللأمة الإسلامية من دروس ومواعظ وفتاوى وخطب، وجعلها في موازين أعماله وحسناته يوم البعث والنشور.

* * *

وقبل الختام:

ليس هذا رثاءً، وإن كان فيه من ذلك الشيء الكثير، وليس هذا تعداداً لمناقب الفقيد، وإن كان يحمل بعض الإشارات والإلماحات، وليس هذا تأبيناً أو ثناءً ومدحاً، وإن كان يستحقه ولا نلام عليه… ولكنها مشاعر صادقة، وتوثيق للتاريخ ناصع، وإشادة بمواقف لابد أن تذكر، باعثها ذلك الموت المباغت الذي حل على ديارنا السعودية، وبلاد المسلمين عامة في يومنا الوطني الخامس والتسعين، فاختار سماحة الشيخ/ الآمام عبدالعزيز بن عبدالله آل الشيخ الذي أحب لقاء الله فأحب الله لقاءه، واختاره بعد معاناة من المرض، ولكنه كان الصابر المحتسب، الداعي إلى الله، والمقدم للدروس والفتاوى حتى وهو على سرير المرض!! فرحمه الله رحمة واسعة وعظم أجرنا فيه، وعزاؤنا للقيادة الرشيدة، وآل الشيخ جميعاً، وأسرة الفقيد… ولا نقول إلا ما يرضي ربنا” إنا لله وإنا إليه راجعون، لله ما أعطى ولله ما أخذ وكل نفس ذائقة الموت، ولا حول ولا قوة إلا بالله العظيم.

وأقول شعراً:

الموت حق علينا قد عرفناه
في كل حين ينادينا.. فنلقاه

يختار من كانت الأرواح منزلهم
وما جزعنا لأن الراحم الله

* * *

(5) خاتمة ووداع:

ولسماحته (يرحمه الله) ولمحبيه وتلاميذه وأسرته الكريمة أختم بهذه الأبيات الشعرية من قصيدتي الرثائية أقول فيها:

حمل الأمانة موقناً بأدائها
بالعدل والإحسان والتبيان

هو صاحب الورع النَّقيِّ، ووجهه
نور من الياقوت والمرجان

يارب فارحمه… ونور قبره
واجعله في الفردوس والرضوان

آمين

يارب العالمين…

والحمد لله بفضله تتم الصالحات.

جدة: من صباح السبت 5/4/1447هـ

‘لى مساء الأحد 6/4/1447هـ

الدكتور/ يوسف حسن العارف

أديب سعودي وكاتب رأي وشاعر

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى