“فن التغافل ذكاء القلب وراحة العقل”
“فن التغافل ذكاء القلب وراحة العقل”
الدكتورة هنادي أبو رحيله
في عالمٍ يضجّ بالتفاصيل، ويزدحم بالمواقف التي قد تستفزّنا أو تثير فينا ردود فعلٍ متباينة، يبرز “فن التغافل” كمهارة راقية، لا يتقنها إلا من بلغ من الحكمة مبلغًا، ومن فهم الحياة على حقيقتها.
التغافل ليس تجاهلًا، ولا هو ضعفٌ أو استسلام. بل هو اختيارٌ واعٍ لتجاوز ما لا يستحق الوقوف عنده. هو أن ترى الخطأ، وتدرك الإساءة، لكنك تقرر أن لا تُعطيها من وقتك ولا من طاقتك شيئًا. هو أن تترفّع عن الصغائر، وتُعلي من شأن نفسك، وتُجنّب قلبك عناء الغضب والضيق.
التغافل ذكاء اجتماعي…
في العلاقات الإنسانية، لا يخلو أحدٌ من الزلات. فإن وقفنا عند كل هفوة، وعاتبنا على كل كلمة، خسرنا القريب والبعيد. التغافل هنا يصبح ذكاءً اجتماعيًا، يُبقي الودّ، ويُصلح الخلل دون صدام. فكم من علاقةٍ دامت لأن أحد الطرفين قرر أن “يتغافل”، وكم من صداقةٍ انتهت لأن الطرفين أصرّا على المواجهة في كل مرة.
التغافل لا يعني القبول بالخطأ…
من المهم أن نُفرّق بين التغافل كفن، وبين التهاون في الحقوق. فالمتغافل لا يُفرّط في كرامته، ولا يُسكت عن الظلم، لكنه يختار معاركه بعناية. يعرف متى يتحدث، ومتى يصمت، ومتى يبتسم ويُدير ظهره لما لا يستحق.
التغافل راحة نفسية…
حين نُمارس التغافل، نُريح أنفسنا من عبء التفسير، ومن إرهاق التحليل، ومن مرارة التوقعات. نُدرك أن الناس ليسوا دائمًا كما نريد، وأن الحياة لا تسير على مقاييسنا. فنُسامح، ونتجاوز، ونمضي بخفة.
في التراث والحكمة
قال الإمام أحمد بن حنبل: “تسعة أعشار حسن الخلق في التغافل”. وقال الشافعي: “الكيّس العاقل هو الفطن المتغافل”. وفي ذلك دلالة على أن التغافل ليس غفلة، بل فطنة مقرونة بالحكمة.
خلاصة القول…
فن التغافل هو ترفّع عن الصغائر، هو أن تختار السلام الداخلي على الانتصار اللحظي. أن تُدرك أن بعض الأمور لا تستحق الرد، وأن بعض المواقف لا تستحق التوقف. فكن فطنًا، لكن متغافلًا. ففي التغافل، حياةٌ أهدأ، وعلاقاتٌ أنقى، وانفس أكثر اتزانًا.
د. هنادي ابو رحيله
دكتوراة في الاضطرابات النفسية بورد أمريكي في العلاج النفسي .
كاتبة رأي
