كُتاب الرأي

فضفضة على شاطئ

سلطان عيد المرشدي

فضفضة على شاطئ

ليلةٌ تهب فيها نسائمها الباردة على ذلك الشاطئ الهادئ لا تسمع سوى صوت زجير الموج كلما ارتطمت في أرصفته، تملؤها المتعة واللذة في أحد المطاعم المطلة على كورنيش الخبر بصحبة صديقي بندر، نُناقِش في تلك اللحظة مُتعة تناولنا للروبيان المقرمش اللذيذ وسمك السالمون المشوي بصوص الليمون بعد أن خضنا تجربة تذوق جميلة غير مسبوقة، لم يقل ذلك المطعم عن مستوى جمال منظر الشاطئ وصوت موسيقى أمواجه التي كُنا نسمعها ونحن نخوض في غمار لذة الطعام، ولعلي أسهبت في الإشادة والحديث من شدة الانبهار في ذلك المطعم وكأنني أنا من يملكه؛ ونسيت صديقي بندر متكئًا ينتظر كوب قهوتنا الذي سنكمل فيه تلذذ كل حواسُنا في تلك الليلة.دار حديث بيننا عُدنا من خلاله إلى لهفة الذكريات القديمة والوقوف على أطلالها، نستذكر مواقفًا كانت هي الأساس في صُنع قراراتنا اليوم وأخرى مليئة بطفولية تفكيرنا في ذلك العمر الصغير، ثم طرحت عليه سؤالاً بعد أن استطردنا في الحديث وكل سؤالٍ يجر آخره حتى تطرقنا إلى مواضيع المسؤوليات وكيف نتخذ قراراتُها ثم سألته: لما اخترت الزواج من امرأة لا تنتمي إلى محيطك الاجتماعي؟ نظر إلي نظرة شعرت من خلالها بأن سؤالي قد راق له وأحب الحديث عن قصته، وأحببت سماعها منه والإنصات له فاستأذنته بأن يقصها علي لأعرف ما الأمر الذي دفعه إلى الاختيار من خارج محيطه بل وخارج مدينته تمامًا، ارتشف من قهوته معدلاً طريقة جلوسه وكأنما سيتحدث الآن عن أمر ود لو أن يطرحه وهو واقِفًا تقديرًا للأحداث التي ترى امتنانه لها في لمعة عيناه، ثم استهل حديثه قائلاً: عشنا أنا وأخي حياة جميلة جدًا مع والدتنا التي بذلت وسعت دائمًا كيّ لا نشعر بأي نقص أو منغص على حياتنا وجسدت دور الأم والأب بعد أن توفيّ والدي مصارِعًا للمرض صابرًا ولكن أمر الله نافذ، هل تعلم ماذا يعني تجسيد أعظم دورين في حياة الأبناء وحجم ثقلها على النفس؟ لكنها لم تشكو أو تتضجر لقد كرست حينها أمي الحبيبة جوهر روحها وليس جُل وقتها فقط واهتمت بتربيتنا كي لا ننشأ إلا صالحين، ولم تكن حياتها آنذاك تفيض بالشهادات العلمية حتى أنها لم تكن تقرأ أو تكتب لأمية تعليمها، لذا لم تتعلم ماهي نظرية فرويد أريكسون وكيف تكون تربية الطفل والطرق الحديثة للتنشئة، لكن والدتي تملك فؤادًا رقيقًا يكسوه الخوف من الله ولا أعتقد أن هنالك أعظم محركًا من هذا للضمير، حتى أن من شدة رقة فؤادها علينا أتمنى لو أستطيع أن أتلوى عليه وأصبح بينه وبين كل ما يؤذيه حاجزًا لا يمكن أن يُكسر أو أن يتم تجاوزه، فُطرت على نهج الإسلام وجاء تابعًا لذلك تجارب السنين التي لم تبخل في تعليمها، فوهبتنا كل ما تملكه بين يديها من الغالي والنفيس حتى نشأنا يُشهد لنا بحسن الخلق ورحابة أنفسنا التي اشتققناها منها.توالت الأيام في كنف أعظم أم وليالٍ كنجوم السماء في صفحات حياتنا لا نُبدلها حتى بأثقل الكنوز ميزانًا، ثم التحقت في وظيفة جيدة وكأي شاب يبدأ يُفكر في الاستقرار وبناء حياة أسرية تحفها الطمأنينة ودفء الأسرة المليء بمشاعر الأبوة، وأخبرت والدتي في رغبتي والبحث عن فتاة ذات خلق وصلاح لأكمل نصف ديني، وكأي أم إذا سمعت بطلب ابنها ورغبته في الاستقرار كأنما الدنيا تُصبح بين كفتيها وكيف لا وهي التي طالما حلمت بهذا الحُلم منذ أول صرخة بكاء لنا في هذه الدنيا مُعلنة عن حياة جديدة، قالت لي: ما رأيك أن نخطب لك ابنة عمك؟ وأظن أنها أكثر من يناسبك، وافقت كلامها دون أي تردد لا سيما وأننا من عائلة واحدة، نعرف تفاصيل حياة بعضنا وأعلم جيدًا حسن أخلاقها، ثم سألتني السؤال الذي يقع دائمًا في هذه المواقف على رأس الهرم: كم لديك من المال كي يكفي لتكاليف زواجك؟ قلت: كل ما أملكه الآن أربعون ألف ريال فقط لا غير، فضحكت على قول ” فقط لا غير” وقالت ببساطة لهجتها الأحب إلى سمعي: ربك ييسرها يا ولدي.ثم قررت أن أعقلها وأتوكل وتم تحديد موعد لزيارة عمي، وذهبنا بالفعل إلى زيارته بصحبة والدتي وأخي وقلوبنا مبتهجة ولطالما تمنيت هذه اللحظة، كان عمي في انتظارنا مرُحبًا وفرحًا وبعد السؤال عن الأحوال لم أرغب بإطالة الأحاديث والحقيقة أن مشاعري من شدة حماستها كان بودي لو أنني أستطيع تسريع الوقت كيّ أوصله إلى لحظة الرأي وآمل أنها تتنحى أبدًا عن الموافقة، تقدمت إلى طلب كريمة عمي بدور وخطبتها لي، فوافق دون تردد أو حتى أن ترف له جفن وجميع أسرته فرحين بذلك، فأبلغت عمي أني سأحضر إليهم بعد يومين لسماع شروطهم ويكونوا حينها قد اتفقوا فيما بينهم على ذلك، وفي ظني أنه لن يكون لي أحدًا عونًا أكثر من عمي ولن يتوانى عن مساعدتي.جاء اليوم المتفق عليه وزرتهم لسماع شروطهم وأنا مطمئن وقد ذهبت إليهم بخفة نفسي فلا إرتباك يُشتت أفكاري ولا ريبة تنتابني وتهتك أمان جوفي، فقلت له: ماهي شروطكم من مهر وغيره يا عمي؟ قال لي: أنا ليس لدي أي شروط، انتابتني جُل مشاعر الفرحة وانغمست في ذلك، وقد كنت واثقًا أنه سيقف معي ويعينني ليتم زواجي بيسر، ولكن أردف قائلاً: يجب أن أسمع والدة الفتاة وشروطها، فوافقت دون تردد ولم يكن في ذهني إلا أنهم لن يخرجو عن رأي عمي أبدًا، فأقبلت زوجة عمي في يديها وريقة صغيرة مطبوقة ببعضها فيها ما يرغبون به لابنتهم، أخذتها منهم ووضعتها في جيبي ثم أنصرفت دون قراءتها، وما إن وصلت البيت وقابلت والدتي وبدأنا في قراءة هذه الورقة كيّ نعرف ما كُتب فيها وما يرغبون به، فقد حددوا مهرًا يبلغ الخمسون ألف ريال وبعض الحلي من الذهب، قمنا بعد ذلك بتسعير ما طلبوا من الحلي استعدادًا لتجهيز التكاليف، فأصبح ما يجب عليّ دفعه لهم مهرًا يبلغ ثمانون ألف ريال، ولم يكن في حوزتي ذلك المبلغ ولا يوجد لدي أي مبلغ آخر بتاتًا، فشعرت حينها بالأسى وحاولت أن أعتذر عن إكمال هذا الزواج لعدم قدرتي عليه، إلا أن والدتي منعتني عن فعل ذلك وطمأنت فيض أفكاري اليائسة بأن الأمور ستجري بسلاسة وتكون على ما يرام ويُحل أمر المبلغ المتبقي من المهر.بعد تفكير مطول في الحل لإيجاد هذا المبلغ طرأ عليّ أن أقترض من أحد البنوك وأحل الأمر، ولكن أثناء محاولتنا في إيجاد الحلول باغتنا اتصال من زوجة عمي لتُبلغ والدتي بأن هنالك أمورًا أخرى من الذهب وشروطًا يرغبون في إضافتها، فشعرت بثقل كاهلي قبل أن نبدأ في خوض الأمر ورفضت تمامًا ذلك وقررت التوجه إلى عمي قبل أن أقدم على أي خطوة وقد يستطيع حل الأمور بطريقته، وأني إن ذهبت إليه لأخبره بما طُلب مني وعن ظروفي المادية التي تمنعني عن توفير كل هذا، وما لم أتوقعه وشعرت بخذلان شديد منه أنه قال بالفم المليان: هذه طلبات النساء ولا علاقة لي فيها، فأصبح ذهابي له في مهب الريح ودون جدوى أو أدنى نتيجة تذكر، فخرجت من بيته وأنا جازم وصارم في قراري على الإعتذار عن إكمال هذا الزواج، وأخبرت أمي بهذا وعندما رأت ثقل ذلك عليّ وعلمت أنه حتى في حال حاولت واجتهدت لتوفيره سأدخل نفسي في دوامة الدين وتنهار قدرتي قبل بدء هذه الحياة التي أطمح أن تكون مستقرة لم ترفض ووافقتني الرأي، وبالفعل تواصلت والدتي مع زوجة عمي ووالدة العروس وأخبرتها بعدم قدرتنا على إكمال الزواج واعتذرت بطريقة مناسبة منهم، فلم تُعطي أي رد فعل وامتلأت المكالمة ببرودها التام وموافقتها العاجلة، فما شعرت به أن اهتمامهم المادي أعظم وأبلغ من أي أمرٍ آخر وأكبر من إعانة شابان على تيسير زواجهما.انتهى أمر زواجي ودارت الأيام ولم أعد أفكر في البحث ذلك، وجاء ذات صباح وأثناء الحديث مع أحد الزملاء في العمل أخبرته عن قصتي هذه، فتمعر وجهه وأغضبه ما حدث لي وكيف كانت ردود عمي وزوجته على الأمر، فقال لي: أنا الآن مرتبط بفتاة من أسرة متدينة ولديها أخت أخرى هل ترغب في الزواج منهم؟ وافقت دون تردد لكثرة ما أثنى على هذه الأسرة، ثم أخذت منه رقم والدها لأتصل به، وهذا ما حدث بعد مدة تواصلت معه وأخبرته برغبتي وطلب القرب منهم وعرفت عن نفسي وعلاقتي بزوج ابنته فرحب بي، وطلبت منه تحديد موعد كيّ أزوره في مدينته، وبالفعل ذهبت إلى زيارته ولم أرى فيه إلا رجلاً فاضلاً متديناً لين الكلم، فشعرت حينها أن لي نصيبًا في بيته هذا، ومن شدة طيب نفسه كأن روحي ألفته، ثم تحدثت معه طويلاً لنعرف عن بعضنا أكثر وجاءت اللحظة التي يجب أن أخبره بما في جعبتي وأقول ما أرغب به من زيارتي هذه فأخبرته بأني أريد أن أتقدم لخطبة ابنته، فقال لي: كتب الله لكما الخير ولكن سنخبرك فيما بعد إن شاء الله بالموافقة من عدمها، وبعد مضي أسبوع وجدت ذلك الرجل – والد الابنة التي تقدمت لها- يصلي معنا في المسجد وعلمت أنه جاء للسؤال عني وعن صلاتي وأخلاقي، وقد أخبرني إمام مسجد الحي بذلك فيما بعد، حاولت حينها ألا يراني فُيحرج مني وأن أعطيه مساحة للخروج دون رؤيتي، انقضى أسبوع آخر على مرور ذلك الموقف فإذا به يتصل يزف لي بُشرى موافقتهم على أن أكون زوجًا لابنتهم ونسيبًا لهم فأصبحت الفرحة من توهجها تسمعها في صوتي وتراها حتى في صمتي حين تتحدث بدلاً عن لساني عيناي.حددنا موعدًا لعقد القران وتوجهت بصحبة عائلتي إليهم وتم عقد قراني دون حضور عمي الوحيد الذي خيب ظني وهو الذي يجب أن يكون أول الحضور والفرحين لي فما كان يرطبني به ليس ابنته بل صلة رحم ودم لا يمكن نكرانه أو تجاهله، ولما أردنا عقد القران سأل مأذون الأنكحة: كم المهر المُتفق عليه؟ فالتفت والد خطيبتي وقال: يا ابني كم معك؟ قلت له: أربعون ألف، قال للمأذون: اكتب أربعون ألف، تمت الأفراح وعُقدت القلوب بيُسر الله وبركته وعُدنا إلى ديارنا، ومن الغد قمت بإيداع المهر في حسابه فاتصل بي وقال: عندما تأخذ شقة أخبرنا نريد أن نراها، قلت: بإذن الله، وبعد البحث وجدت شقة صغيرة مناسبة لشخصين فأبلغتهم بذلك، ثم حضر الأب وأسرته وأخذ مني مفتاح الشقة، ولم أذهب بعد ذلك إليها إلا بعد أن مضى شهرًا كاملاً، ولما ذهبت إليها كيّ أبدأ في الترتيب والتأثيث وجدتهم قد أثثوها كاملة ولم يتبقى إلا غرفة النوم، دُهشت وفرحت جدًا لا أخفي ذلك وليس لقيامهم بذلك بل لكونهم أصبحوا لي عونًا وأهلاً وأقاربًا أكثر من أقاربي، اتصلت به وقلت لماذا فعلت هذا؟ ثم قال لي: هذه الأربعون ألف التي أعطيتنا إياها مهرًا قمنا بتأثيث منزلكم بثلاثين ألف وبقي منها عشرة آلاف لحجز استراحة حفل زفافك المختصر على العائلة والمقربون جدًا، حاولت جاهدًا حينها أن أمنعه عن القيام بذلك وأنا من سيتكفل بهذا، ولكن قوبل كلامي بالرفض الشديد والتام، علمت في هذه اللحظة أنني قد حظيت بأنسابًا كفؤ وخير أهل لأبنائي، فقد اشتروا سعادة ابنتهم من خلال التيسير على زوجها.لقد تم الزواج وفي القلوب بهجةً لا يعلمها إلا الله ولم تكن محصورة على الحفل فقط، بل فرحين بارتباط عائلاتنا ببعضها ومعرفتنا بأناس أهلاً للخير والخلق الحسن، وعشت في رغد العيش وأنس الحياة الهانئة التي لم ولن يكدرها شيء بإذن الله، فلم نكن إلا سكنًا لبعضها واتكاءً لا يميل، وبعد أن مضى عامًا كاملاً وأنا حامدًا على هذا النصيب الخير قالت لي زوجتي: يا بندر أمك تعيش في بيتها لوحدها لا أحد حولها ينفس عنها ضيقها ويملأ عليها المكان، لماذا لا نترك هذه الشقة ونسكن معها؟ لقد تفاجئت من سؤالها الذي بادرت به قبل أن أقول ذلك ليس لسوءٍ فيها بل والله أنها كريمة نفس من أهلٍ كرام، ولكن ما دعاني للدهشة والتعجب كيف لفتاة لا زالت في أول حياتها الزوجية تقبل العيش مع أم زوجها بعد أن كانت في بيت مستقل مرتاحة البال وترغب بترك كل هذا؟ قبلت وأنا تتفجر السعادة من جوفي وعيناي تدلي بذلك من شدة الفرحة، ثم انتقلنا بالفعل إلى السكن في بيت أمي وفي كنفها الدافئ، ولا توجد أي أبجدية تصف مشاعري وأنا أعيش في غمرة السعادة ما بين أمي الحبيبة وزوجتي البارة بها، وقد رُزقت منها بثلاثة أبناء كانوا لي زينة الدنيا وكأنهم جزءٌ من روحي على هذه الأرض.إلا أنه لا زال في القلب غصة إلى هذا اليوم كلما رأيت عمي وتذكرت موقفه معي وحتى تجاهله لزواجي آخًذًا موقفًا لسبب لم يكن لنا فيه نصيب ويجب ألا يُفسِد ودنا وما بيننا أعظم من ذلك، وكيف كان موقفه وتسليمه لكل الأمور إلى النساء متجاهلاً حديثي وطلب العون منه لأنني لم أرى عمي إلا في مكان والدي رحمه الله وتقديره، ولا زلت أشعر بحرقة على ذلك رغمًا عن كل السنين الطوال العُجاف التي قد مضت وانتهت على هذه القصة، وكان البعيد أرحم بي وأكثر عونًا وتسهيلاً من القريب الذي يجب أن يكون أول من يفعل معي ذلك، هل تصدق يا سلطان ! أني كلما نويت أن أخرج صدقة أو أقوم بعمل خير أجعل لوالد زوجتي الذي فعل من أجلنا الكثير سهمًا ولا أرجو إلا أن يبلغ منزلةً عليا في جنة الرحمن وأن نلتقي فيها بإذن الله على سرر متقابلين .انتهى بندر من سرد أحداث قصته والتي لم أمل من سماعها وودت أني عشت تلك اللحظات لأنعم بذلك الرجل الذي يمثل الأب الذي يسعى لإسعاد ابنته قبل زوجها وقد تيقنت من كل ما سبق أنه قد يسخر الله لك من لا تربطك به أي علاقة دم ويكون أقرب لك من كل قريب.

كاتب رأي

 

‫2 تعليقات

  1. قصة واقعية توشت بجمال الوصف ورقة المفردات وتتابع الأحداث مرورا بالعقدة ومتعة الحل
    أبدعت أستاذ سلطان

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
الذهاب إلى الواتساب
1
م حبا أنا سكرتير رئيس التحرير
مرحبًا أنا سكرتير رئيس التحرير وأنا هنا لمساعدتك.