فرق المعادلة بين الظهور والسكوت

الغريب في هذا الكون أنّ الأحوال تتغير ولا تستمر على حال واحدة، والمواقف تتبدل ولا يستقر الأثر على ذاته ، يذهب ناس ويأتي آخرون ، تسقط أنظمة وتنهض أخرى ، لا يدوم الظلم ، ولا يهنأ الظالم ، لكن الأغرب من ذلك أن تجد الجميع يصيبهم الصمت ويعتريهم الوجوم لفترة زمنية معلومة ، ثم يأتي وقت فيتكلمون!!
هذه السياسة العقيم انتهجها خلال السنوات الماضية أتباع الطاغية حاكم الجمهورية العربية السورية الشقيقة المخلوع والهارب من العدالة ، سنين عديدة تزيد على خمسين عامًا عاث فيها فسادًا وطغيانًا وجبروتًا، قتلٌ وتهجير ، تجويع واغتصاب ، تشريد. وتهميش ،لقد حكمت أسرته بالنار والحديد وأذاق شعبه ويلات القمع والتقزيم لم يكن أحد يجرؤ أن يتكلم إلا عشيرته لكن رموزها لم يتحركوا أو ينطقوا أو حتى ينكروا عليه ما يفعله تجاه شعبه ووطنه وعروبته، لن نتحدث عن الدين فهو أعلم بدينه ومعتقده لكن جوامع المدن السورية لم تسلم من أذاه، كانت في وقته مرتعًا لزمرته يستأسدون ويفسدون فيها دون أن يكون هناك رادع لهم، لقد استباح الإنسانية وأغدق كثيرًا على نفسه ، حتى صار إلهًا عند قومه ولدى أتباعه المحسوبين على دائرته الخاصة، انتشرت صوره في كل مكان ، حتى أنه أصبح له في كل زاوية تمثالاً يؤكد ألوهيته وسطوته عند أصحابه وأصدقائه وبقية شعبه المغلوب على أمره.
نهب الأموال وتاجر بقضايا كثيرة ، وابتاع واشترى في العروبة وتشدق بالوطنية طيلة سنوات حكمه، فدمر إرثًا وحضارة لها آلاف السنين، لم يكن حاكمًا قط، كان متجبرًا وطاغية متكبرًا لا يعرف قيمًا، ولا مبادئ وفوق هذا كله صمتت عشيرته عن كل جرائمه في حق شعبه ووطنه وحين سقط ولاذ بالفرار ظهرت أصواتهم ، نعم ظهرت أصواتهم تنادي بالحرية والمؤاخاة والسلام والدعوة إلى الوسطية والاعتدال والتسامح والعفو ، والعدل ، أصبحوا في كان نادٍ يهيمون يقولون ما لايفعلون ، طاغيتهم أجبر اثني عشر مليونًا على الخروج من وطنهم وبيوتهم وهجروا أراضيهم ولم ينكر عليه أحد طبائعه الكريهة ، مات الآلاف في مياه البحر غرقًا والكثير منهم أصبحوا غذاءً لأسماك القرش في عرض المحيط ولم ينطق أحد من قرابته أو حتى يحاول أن يذكّره بخطئه الذي يرتكبه في حق أولئك الأطفال والنساء والعجزة وكبار السن، وذوي الاحتياجات الخاصة ، حتى ذوي الرعاية لم يسلم أحد من ضرره وتعسّفه وعدائيته ، مَنْ ينسى سنين البرد والجوع والتشرد، منى ينسى تلك الأصوات التي كانت تصرخ وتئن وتتألم وهي تشاهد موتها يدنو منها في عرض المحيط ، من ينسى ذلك العذاب الذي كان يمارسه ضباط جيشه على السجناء، ومع ذلك كانت طائفته تلتزم الصمت وكأنها تؤيده على فعله!!
عجيب هذا العالم!! حين سقط كبيرهم هرولوا إلى الفضيلة يذكّرون غيرهم بها وهي كانت أقرب إليهم من شرايين قلوبهم ، ذهبوا يدعون إلى التسامح والفضيلة والتعايش وكأن شيئًا لم يكن ، كأنه لم يغتال فرحة أم على ابنها ولا أب على عائلته، ولا شيخ على جامع، ولا مزارع على مزرعته، حتى أسقف المنازل لم يتركها لهم لقد اقتلعها وترك جدرانها تلتحف السماء وزمرته يشاهدون ما يفعله.!! ولا ينكرون عليه.!!
هناك قاعدة اجتماعيه تقول: إن لم تستطع قول الحق فلا تصفق للباطل!!
لقد صفق للطاغية المخلوع الكثير لكنه ذهب وتركهم ، تسلل ليلاً تحت جنح الظلام هاربًا من فعلته ، فرّ بعد ثلاثة عشر عامًا ترك خلفه ركامًا وأرضًا محروقة، وبقايا بشر، بالتأكيد بقايا بشر وهياكل عظمية يحتاجون مئات السنين لمعالجة جروحهم ومداوة الفقد ، سوف يحتاجون إلى قرون طويلة حتى يستعيدوا جزءًا من الإنسانية التي فقدوها لن ينسوا ما فعله بهم ، وحتى إن عاشوا فرائحة الموت ستبقى تنبض في عروقهم.
إن الخوف والرهبة والتوجس والفزع وجميع الأمراض العقلية والنفسية والمعنوية التي تسبب بها ذلك الكائن لن يغفرها الزمن ولن تمحوها السنين ، تلك الإبادة الجماعية التي انتهجها ضد شعب أعزل لن يغفرها الوقت ، ولن تنساها القلوب النقية التي صارت فيما بعد قلوبًا ممزقة ،مشتتة.
في كل مكان مر به أو وضع له بصمة قاتلة لن ينساها المساكين الذين قتلوا تحت آلة الحرب، والأنكى من ذلك أن عشيرته وأهله صامتون لا يتكلمون عن جرائمه.
هنا يظهر فرق المعادلة بين الظهور والسكوت.
علي بن عيضة المالكي
كاتب رأي
( قراءة نقدية متمكنة للجيوسياسية ، وبواعث رمزية للظواهر الاجتماعية التي جسدها الكاتب) أستاذ علي المقال رائع والموضوع في منتهى الإبداع وكما عودتنا طرحك دائمًا متميز وشكرًا لمشاعرك النبيلة تجاه اخواننا الأشقاء في سوريا فلا الجراح تُنسى وماحصل لهم لاتقبله الإنسانية جمعاء 👌دام فكرك وقلمك.يارائد الحرف
أ/ زايدة حقوي
قراءتك لواقع الجيوسياسية يدل على ذهنية نادرة
ألف شكر على مرورك العطر.
لله درك أستاذ علي ما أبلغ كلماتك وما أوجع معانيها التي جسدت لنا واقعا رأيناه عبر شاشات التواصل فطر قلوبنا و أدمى عيوننا .
دام قلمك سوطا على الباطل وسيفا للحق .
كما عهدناك كاتبا مبدعا .
صدقت والله ما مر به الشعب السوري من جراح وألام تحتاج قروووووون لتداوى ويبقى ندبها واضحا .
كان الله في عونهم.
أ/ شقراء طالبي
أنت أنموذج حي للقارئ المتفرد.
سعدت بمرورك الجميل على صفحتي.
دمت بخير.