عِشقُ الناغم

أحمد السالم الجكني
عِشقُ الناغم
قال ياسرُ لمّا رآني منطرحَ الجوارح، مشدودَ الجَنان، أُصغي لنغمةٍ ساحرة، سطّرتها صاحبة كيلوباترا:
“أصبحتُ أنا في غرامك مشتعلَ النيران!”
فقلتُ:
“عهدتُك تنفرُ من أغاني طلال كما تنفرُ الناشز من بعلها..فاسكت واستمع، ثم أنصت وتأمّل، فلعلّك ترى ما أرى، وتشعرُ بما أشعر فَيَلين قلبك عليّ.
قال: “السفهاءُ أمثالك لا ردَّ عندي عليهم، ولكن يا أبا الخطّاب، يا صاحبَ العتاب، ويا حارسَ الغياب، إني في حيرةٍ من أمرك، وعجبٍ من شأنك، قد أنجبتِ النساءُ دونها عازفاتٍ، وربّما أشجى منها عزفًا، وأضبطَ منها إيقاعا، وأغنى منها لحنًا، يُجِدن الغناءَ فطرةً واكتسابًا… بسمة، مودّة، أريانا مثلًا، لمَ هي دونهنّ؟!”
فقلتُ، وما كتمتُ الغيظَ إلا سترًا لما هو أعظم:
“( ياصاحب العتاب، وحارسَ الغياب؟!) لا معنى لها في السياق، أم أنها عبودية القافية دخلت لسانك فاستحلّتِ؟
على كُلٍّ..لا أدري أصدقتَ إذ نطقتَ أم كذبت، ولكن ما شعرتُ بصدق النغمة إلا منها، ولا تلذذتُ بنغمةٍ إلا من أناملها، ولسنَ من ذكرتَ بأهلٍ للمقارنة بها.”
قال: “عبودية القافية نعم..لا أدري، أبها أنت هائمٌ، أم حول أنغامها فقط أنت حائم؟”
فقلتُ، وقد استعرَّ بيَ الوَجدُ:
“حتى أنا لا أدري… فساعةٌ أهواها، وساعةٌ أهواها، وساعةٌ ثالثة أهواها… لا أدري أأهواها أم أهواها!”
قال: “تالله لقد شغَفتها حبًا يا أبا الخطّاب، وإنّ الذي أصابك مسٌّ من الهوى، فأجبني أبيتَ اللعن يا هائمًا..أتشعر بالحب في قلبك؟”
فقلت، وقلبي بين أضلعي ينوحُ، ولساني بمكنونه يبوح:
“لو لا التشهّد كانت لائي نعم.”
فما إن نطقتُ بتلك الكلمة المواربة، حتى سكنَ ياسر، ونظر إليّ نظرةَ رحمة وشفقة:
وقال:
“أنطقت بكلمة الحب؟”
قلت: نعم، ولكن ليس بلساني..حبستُ حروف الهوى، وأطلقتُ معناه.
قال: أتظنّ أن الهوى إذا حُبس لم يفسد؟
أم أنّ الحُبّ إن لم يُقال، طال عمره واتّسعت دائرته؟
بل إنّ القلب إذا أُثقل بحُبٍ لا يُقال، صار قبرًا لا خافقا..بُح بما تجدُ.
فقلتُ:
” أنا لا أكتمُ بُخلاً، ولا أخشى ردّها بصدٍّ، ولكني أخاف إن قلتُ: “مِلتُ إليكِ، فشغفتكِ حُبًا” ، أن تموتَ الكلمة من شدّة الصدق، أو يذبل الحُبُّ من لَذعة التصريح…
إن المحبّ إذا باح، فكأنّه وضعَ حدًّا لما لا حدّ له، وجعل للنغمة نهايةً، وللعشقِ ضريحًا..البوح بما تخفي الصدور من حبٍّ قد يئده..سأنتظر ولا أدري حتى متى “.
قال:
“وهل تُفضي النغمةُ إلى شيءٍ غير نهايتها؟
صدقَ الذي قال “ما رأيتُ سمينًا عَقِلَ قطُّ”
كيف تريد من الحب أن يُخلّد في انتظار لا يُطاق!
فقلت، وقد غلبني الشوق لمقلتيها وحنّت مسامعي لجديدِ أنغامها:
هي لا تعلم، ولو علمت، لهان كلّ شيء.. ولكن، أيُّ نغمةٍ ستبقى إذا عرفت أوتارُها أنها محبوبة..لا ليست محبوبة، بل معشوقة؟”
فسكت ياسر، وسكتُ معه،
فما أشدّ وقع الصمتِ إذا صار جوابًا..
وما أبلغَه إذا نطق بالذي لا يُقال.
أديب وكاتب رأي وقاص