في ظلال المشهد المسرحي

عُقدُ الروحِ

أحمد السالم الجكني

 

عُقدُ الروحِ

ملئُ صدري همومًا وجوىٰ، قد ضاقت عليّ الأرضُ برحْبِها، وما وسعتني سَعةُ بيتي، فهزّني بردُ الشتاء للخروج إلى حديقة ما باعدها حادقها عن بيتي، حديقة نخيلٍ وثمارٍ دانية..جلستُ على ربيعِها واستطردتُ في فكرٍ آلمني الإستطراد فيه..فما وجدّتُ من أبثه وجدي ليحمل معي همًّا من هموم، ويزيل غمًّا من غموم..حتّى سمعتُ تعويذةً رقّ لها قلبي، وأنَّى للقلوب أن ترققها تعاويذ السحرة؟..هدأت منها لوعتي وسكن بها فؤادي، واستكانت لها نفسي، وارتاحت لها جوارحي وخضعت لعذوبتها روحي..ملاكُ البشرِ هي..ومن في الكون عازفةٌ تشجي قلبًا مثقلًا بهمومٍ إلّاها؟

فرغَت من غنائها وعزفها والتقتْ مُقلتينا، قالت:
” ما أصابَك يا فتى القوم؟”
قلتُ: سحرُ ساحرةٍ نفثت في عُقدِ الروحِ، ولله ما أجدُ من نفَثاتِها”.
قالت: ما تجد؟
قلتُ: ” هيّجَ غناؤكِ جمرةً في فؤادي حسبتها قد رمَدَت.”
قالت: منكَ العفو مأمول يا…
قُلت لهفانًا: أحمد..سمتني أمي أحمد.
ثُم واصلت كلامها: ما كنت أحسبُ حولي أحدًا يا أحمد، فناجيتُ العودُ بهذا اللحن..وإلّا لسمعتَ ما يبهجُ فؤادك، ويُخْبي نارَ قلبك.

فقلتُ لها: “وهل يُرجى العفو ممن أحييتِ روحه بعد مواتها؟ أما آن لهذا العود أن يكفّ عن تعذيب القلوب بعذوبة ألحانه، أم هو المَنْ..يحيي ويَمنُّ..حُقَّ له.”

ابتسمت، وقالت: “ليس الذنب ذنب العود، بل ذنب من استرق السمعَ للحنه حتى اختمر قلبه معه..وإني لأتوسم فيكَ النباهة، فلا تحمّل غيرك عاقبة فعلك”.

قلت: “بل هو ذنب من تتقن العزف عليه، فتفتن الأرواح وهي تظن أنها لن تتأثر، حتى تجد نفسها تُلقي بغيرها في جُبّ النغم..أرى كلينا قد ساهم في تعذيبي.. إن لي لعذرًا إن عذّبتُ نفسي بنفسي..فعادةً بعضُ البشرِ يميل لتعذيب نفسه بيده..فما عذرك تعذّبين فتىً لا تعرفينه؟

لا أدري مالذي سمعته بعدما فرغت من قولي، أهي قهقهة أم لحنٌ قامت حور الجِنان بتأليفه!

ساد بيننا صمتُ الألسنِ وبقي تردد نسمات الشتاء في قصعة عودها، كأن الكلمات تخشى أن تعبث بما لم يُحسم بعد..نظرت إلى عينيها، السوادُ سوادُ العدم، والبياض بياضُ الوجود، ملتقى النقيضين في مقلتيها، كيف غفلَ الفلاسفة عنها!: من تكون؟ ما الذي أتى بها إلى هذه الحديقة في هذا الوقت؟ يا للمُقلِ ما صنعتا بي!

ثم قطعت هي الصمت قائلة: “أراك غارقًا في أفكارك يا فتى..بما أنت مشغول؟”

قلت: “ما زلتُ أستطعم غناءك، وإن له لحلاوة لا تنفد هلّا أكملتي؟.”
كنت أود قول (شُغِلتُ عنكِ بكِ) ولكن لم أستطع لذلك مقالا.

نظرتْ إلى صدرِ السماء وقالت: “ما كنت أظن أن للريح أن تحمل ما في داخلي إلى أحد، فكيف بي وأنا أرى من يسبر أغوار روحي من نغمةٍ واحدة؟”

قلت: “ربما لأن الأرواح تلتقي قبل أن تلتقي الأجساد، وما أدري لمَ هجرتُ مضجعي الدافئ، ولمَ تحمّلت قرصة الصقيع هذه..ولا أدري لمَ ساقتني قدماي إلى هذه الحديقة، رغم خلوّها من البشر عادة..وما كان لنغمة أن تشق هذا القلب إلا لأنها عرفت طريقها مسبقًا.”

أنزلت رأسها لتنظر في عينيّ وقالت: “أرواح تلتقي؟ من يراك يقُل أنك تامّ العقلِ راشدًا..كلامكَ ضربٌ من ضروب الخيال، أو الجنون يا أحمد.”

قلت: “ربما الخيال هو الحقيقة الوحيدة التي نمتلكها، وربما في لحظةٍ كهذه، يصبح الخيال حبلُ نجاتنا من حسراتِ الحياة، أو يكون الجنون.. أو يكون الجنون..أو يكو..لا أدري عن الجنون ولكن قد يكون ذا فائدة.
ضحكت، ثم قالت: “وما الذي تُريد النجاة منه؟”
قلت: “من غربتي، من الوحدة، كسماءِ البيداء في داجية يحنُّ سُكّنها لضوء البدر، ومن الأيام التي تمر دون أن تترك أثرًا.. يشبه لحنكِ هذا.”

وقَفَتْ ثم اقتربت خطوة، ولا أدري الوهج في عينيها، منها أو من قناديل الحديقة.. وقالت: “ربما كنتُ هنا لأجلك، وربما كنتَ هنا لأجلي..أليس من الممكن أن تكون الأرواح التي تلتقي، هي نفسها التي تُنقذ بعضها البعض؟”

قلت: أرواح تلتقي؟ من يراكِ يقُل أنك تامّة العقلِ راشدةً..كلامكِ ضربٌ من ضروب الخيال، أو الجنون يا..ما اسمك؟
قالت: مخلوقة من نور.

أحسست بأن شيئًا ما تغيّر في تلك اللحظة، وكأنها ألقت تعويذة أخرى، لكنها هذه المرة لم تكن بالعود، بل بكلماتها..شعرت بأنني أمام ساحرة من جنسٍ آخر غير البشر، ليست كالساحرات اللواتي تحكي عنهن الأساطير، أو يكفرُ من يأتيهنَّ في الشريعة.. بل ساحرة قادرة على بثِّ الأرواح في أجساد ظنت أنها فقدتها.. وساحرةٌ يؤجَر مُجالسها ويأثم مُجافيها.

أديب وكاتب رأي وقاص سعودي 

 

احمد السالم الجكني

أديب وكاتب رأي وقاص سعودي

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى